تطبيع نكبة..!
يعرّف القاموس العربي «النكبة» بأنها «مصيبة مؤلمة توجِع الإنسانَ بما يعزُّ عليه من مالٍ أو حميمٍ». ولا يكفي هذا التعريف الموجز لوصف فظاعة النكبات الجمعية التاريخية التي أحاقت بالشعوب التي استهدفتها الاستعمارات الاستيطانية: الهنود الحمر في أميركا، وسكان أستراليا الأصليون، والفلسطينيون. إنها أحكام بالإبادة الفزيائية والثقافية لشعوب كاملة كشرط لبقاء الأمة الجديدة، بما ينطوي عليه ذلك من قصص فردية مأساوية لكل واحد من أفراد هذه الشعوب وأجيالهم.
لا يمكن تصور أن يكون القبول بنكبة، كفكرة ووسائل وغايات، فعلا أخلاقيا. وكان ما فعله العالم، في حالتي أميركا وأستراليا، بتطبيع هذين الكيانين فيه، هو المصادقة على أفعالهما، وقبولهما بما هما كموجودَين طبيعيين في العالم، وكأن شرط وجودهما القائم على إنهاء شعبين كاملين لم يكُن شيئًا يستوجب القرف منهما. بل إنهما وضعا نفسيهما في موضع المبشّر الأخلاقي والحضاري الذي يريد أن ينشر الخير في العالم.
مع ذلك، ربما يكون التعامل مع صاحبتي النكبتين، أميركا وأستراليا، مبررًا بأن فعل الإبادة الذي مارستاه انتهى، وأصبحتا حاضريَن فرضا وجودهما في العالم بالقوة كما هما، ولا سبيل إلى نقض ما اقترفتاه. ولكن، ماذا عن الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين؟ إنها فعل أبادة جارٍ، والناس في العالم شاهدون على عملية إبادة قيد التنفيذ.
بدأت نكبة الفلسطينيين، المصيبة التي توجع كل واحد فيهم بما يعز عليه من مال أو حميم، قبل 75 عاماً (قبل ذلك في الحقيقة)، ولم تتوقف لحظة. وحدثَ أنهم تمكنوا من المقاومة والصمود ولم يصبحوا شعبًا كان وانتهى. ولم يصبح الكيان الصهيوني قاتلًا سابقًا موجودًا لا سبيل إلى نقض جريمته. ثمة صراع جارٍ بين شعب مستهدف بالإبادة وقوة استعمار منخرطة بأقصى الطاقة في ذبحه القضاء عليه. وبذلك، يكون الموقف من هذه العملية منطويًا على خيار يؤثر في نتيجة الصراع المحتدم. إنك إما أن تتفرج على مشهد المذبحة بحياد، فتكون مشاركًا بالسكوت؛ وإما أن تصادق عليه وتشد على يد القاتل فتشارك في القتل؛ أو أن تتخذ موقفًا ضد ما يجري وتفعل كل ما في وسعك لوقفه. هل هناك موقف رابع؟
في إفادته الخاصة لمجلس الأمن الدولي في 21 آب (أغسطس)، قال مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، تور وينسلاند، أن قوات الاحتلال الصهيونية قتلت أكثر من 200 فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة هذا العام. والرقم مرشح للصعود. وقال في تقريره أن «الأعمال الأحادية» التي يقوم بها الكيان الصهيوني، بما في ذلك زيادة التوسع الاستيطاني، وهدم منازل الفلسطينيين وغيرها من المباني، وعنف المستوطنين، هي الأسباب الرئيسية للارتفاع الكبير في عدد الضحايا في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي العام الماضي، 2022 ارتقى 230 فلسطينيا في الضفة وغزة ومناطق 1948، وأصيب 9.335 منهم في مواجهات مع جيش الاحتلال أو أثناء اقتحامه المناطق الفلسطينية. وتم اعتقال 6.500 فلسطيني، بما فيهم أطفال ونساء. وهدم الاستعمار 833 مبنى فلسطينيا في الضفة الغربية ومناطق شرقي القدس. وشن المستوطنون 793 هجومًا، ألحقت 582 ضررًا بممتلكات الفلسطينيين وأصابت 211 بينهم. وقام الاحتلال ومستوطنوه بإتلاف أو اقتلاع 13.160 شجرة زيتون فلسطينية.
غني عن القول أن هذه الأرقام جزء صغير من قصة النكبة المستمرة على مدى 75 عاما. وهي تؤشر على ارتفاع ملحوظ في عنف الاستعمار، ترافق مع التوجه إلى التطبيع معه وتطبيع تصرفاته. وبذلك، يأخذ العدو الوحشي رخصة إضافية من التطبيع باعتباره مصادقة عليه، بما هو وبما يفعل.
إذا ما أريد تلخيص القصة الفلسطينية في معادلة رياضية فإنها تكون: النكبة الفلسطينية = الكيان الصهيوني. (الكيان بتكوينه وأيديولوجيته، ووسائله وأهدافه ووسائله وممارساته). إنه النقيض المطلق لوجود الفلسطينيين كشعب. وحتى لو وضعنا جانبا العاطفة القومية ورابطة الدم، ينبغي أن يكون فعل إحداث النكبة مدانا وغير طبيعي وحري بالازدراء والعزل.
التطبيع مع الكيان الإبادي الإقصائي الصهيوني = تطبيع النكبة الفلسطينية والتطبيع معها. وهو ترحيب معلن بالنكبة كحاضر طبيعي مقبول وأبدي. وهو مصادقة على، وتماهٍ مع، فعل غير إنساني ووحشي، والتواطؤ فيه بالموافقة عليه، وترخيص بما يفعله العدو بالفلسطينيين وإعدامه لهم خارج أي قانون.
تطبيع النكبة، أي نكبة، يصدر فقط عن ذوات مستعمرة أخلاقيا، تقبل بالإقصاء المبيت كفكرة وممارسة. ولا تخرج من هذا التصنيف الجهات الفلسطينية التي تروج للتفاهم مع نقيض وجودي معلَن لا يخفي نيته ولا يتوقف لحظة عن تحقيقها. إن هذه الجهات تطبع نكبة، على المستوى الإنساني، معلنة موقفًا في صراع غير منته ومفتوح على الاحتمالات المتأثرة بهذا الموقف. ولا يمكن أن يكون الفرز أوضح.