مزاد "الحضارة" في عصرنا..!

{title}
أخبار الأردن -

علاء الدين أبو زينة

يشهد هذا الشهر ذكرى مجزرتي هيروشيما ونغازاكي في العام 1945، وذكرى مذابح “داعش” الوحشي في سنجار العراقية في العام 2014. ويفصل بين المذبحتين فارق زمني يقرب من سبعة عقود ومئات الآلاف من الكيلومترات، لكنهما تشتركان في أكثر من كونهما مذابح جماعية في حق المدنيين. إنهما تشتركان في المرتكِب، ضمن سلسلة غير المنقطعة من المآسي الإنسانية التي يمكن تعقبها إلى نفس المصدر: الإمبراطورية الأميركية وأذرعها.

قتلت قنبلتا هيروشيما وناغازاكي في 6 و9 آب (أغسطس) 1945 على التوالي ما يصل إلى 140.000 شخص في هيروشيما، و80.000 في ناغازاكي بحلول نهاية العام 1945. كما مات مئات آخرون بعد ذلك بسبب سرطانات الدم والسرطانات الصلبة الناجمة عن التعرض للإشعاعات النووية. وكانت معظم الوفيات من المدنيين في المدينتين. لكن هذه المجزرة النووية كانت بالكاد أول أو آخر المجازر التي ارتكبتها الولايات المتحدة.

في الأساس، نشأت الولايات المتحدة كمشروع استعماري – استيطاني إحلالي، شرط قيامه إبادة السكان الأصليين للمستعمرة. وبذلك كانت الإبادة الجماعية في صلب الهوية الأميركية وشرط وجودها. وتتراوح تقديرات عدد السكان الأميركيين الأصليين في ما يعرف الآن بالولايات المتحدة قبل وصول المستعمرين الأوروبيين من عدة ملايين إلى عشرات الملايين. وقد أباد “الأميركيون” الأوائل كل هذه الملايين بمختلف الطرق غير الأخلاقية.

كان من بين هذه الطرق إدخال الأمراض الأوروبية التي لم يمتلك السكان الأصليون مناعة ضدها إلى مجتمعاتهم لتصبح أوبئة مدمرة. وقد نُشرت، عمدًا، أمراض مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا بين الأميركيين الأصليين. ويقدّر أنها كانت السبب في غالبية الوفيات في مجتمعاتهم. وترافق ذلك العنف الذي صاحب استيلاء المستوطنين على أراضي الهنود الحمر، وتهجيرهم القسري وتجريدهم من ممتلكاتهم، وما نجم عن ذلك من الوفيات نتيجة العنف الوحشي والمرض والمجاعة.‏ وكان لتعطيل طرق الحياة التقليدية للهنود الحمر وفقدان الموارد والاستيعاب القسري أيضا آثار قاتلة طويلة المدى على السكان الأميركيين الأصليين وصولاً إلى إلغائهم من الوجود.‏

‏منذ ذلك الحين تورطت ما أصبحت “الولايات المتحدة” طوال تاريخها في حوادث قتل جماعي للمدنيين اعتُبرت على نطاق واسع مذابح أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

في الحرب الفلبينية الأميركية (1899-1902)،‏‏ أسفر الصراع الذي تسببت به الولايات المتحدة عن سقوط ملايين الفلبينيين بسبب المعارك والنزوح والمجاعة والمرض، والإجراءات العسكرية القاسية التي اتخذتها القوات الأميركية ضد الثوار والمدنيين الفلبينيين. وتشير بعض التقديرات إلى أن العدد الكلي للقتلى المدنيين قارب المليون قتيل. وغيرت الحرب -وخاصةً الاحتلال الأميركي الذي تلاها، من ثقافة الجزر، مؤديةً إلى تشويه الهوية، وحتى تغيير اللغة الرسمية للبلد إلى الإنجليزية.

وفي الحرب الكورية التي تورطت فيها الولايات المتحدة بين العامين 1950-1953 سقط نحو 2.5 مليون قتيل عسكري ومدني على جانبي القتال. وبعدها أسفرت حرب أميركا في فيتنام والمذابح التي ارتكبتها في ذلك البلد عن مصرع ما بين 966.000 إلى 3.8 مليون فيتنامي، معظمهم من المدنيين. وفي صبيحة يوم واحد، هو 16 آذار (مارس) 1968 قام الملازم الأميركي وليام كالي وجنوده بتطويق قرية ماي لاي الفيتنامية ثم قام بجمع القرويين العزل وأمر بإضرام النار في بيوتهم وبقتل كافة السكان. ولقي ما بين 300 و500 مدني مصرعهم في هذه المجزرة التي تواصلت حتى اكتُشفت بالصدفة وأوقِفت قبل استكمالها. وكانت هذه المذبحة صورة مكثفة فحسب من المذبحة الكبيرة.

وفي أفغانستان، وفقًا لمشروع تكاليف الحرب في “معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة” بجامعة براون، كلفت الحرب الأميركية على البلد الفقير أرواح 71.000 مدني بشكل مباشر نتيجة للحرب، و47.000 مدني إضافي بسبب القضايا غير المباشرة المتعلقة بالحرب، مثل تدهور الرعاية الصحية والنزوح وسوء التغذية. وبذلك، ثمة ‏ما مجموعه حوالي 118.000 حالة وفاة مدنية‏‏ مرتبطة بالحرب، ناهيك عن أعداد القتلى في صفوف المقاتلين الأفغان.‏ وما تزال آثار الحرب تؤثر على فرص الحياة لكل الأفغان.

‏وأدت الحرب الأميركية على العراق، وفقًا لـ”مشروع تكاليف الحرب”، من 2003 حتى 2021، إلى مصرع ما يقرب من 184.000 مدني بشكل مباشر نتيجة للحرب، و‏وفيات غير مباشرة‏‏ لنحو 238.000 مدني عراقي إضافي بسبب قضايا متعلقة بالحرب. وخسر البلد‏ الذي ما يزال يعاني ‏ما مجموعه 422.000 حالة وفاة مدنية‏‏ مرتبطة بالحرب.‏

وقبل غزو العراق، ثمة العقوبات الدولية التي قادتها أميركا على العراق، (1990-2000). ويقدر تقرير لمنظمة اليونيسف (1999) أن العقوبات ربما تكون قد ساهمت في وفاة ما يقدر بنحو 500.000 طفل عراقي دون سن الخامسة بسبب سوء التغذية وعدم الحصول على الرعاية الصحية والمياه النظيفة. ويركز هذا التقدير بشكل خاص على معدل وفيات الأطفال. وثمة تقديرات أخرى مختلفة لمنظمات وخبراء مختلفين، تتحدث عما يتراوح من عشرات الآلاف إلى أكثر من مليون حالة وفاة زائدة نتيجة تأثير العقوبات على اقتصاد العراق ونظام الرعاية الصحية والبنية التحتية.

أضف إلى ذلك ضحايا الحرب الأهلية والطائفية التي أثارها الغزو الأميركي. ومن ذلك ظهور التنظيمات الإرهابية المتطرفة وتمدد الصراع إلى سورية المجاورة للعراق. وعندما نتحدث عن العلاقة بين هيروشيما وسنجار، فإن “داعش” الذي ارتكب المذبحة في حق الأيزيديين– من بين آخرين- هو من تفريخ “القاعدة”، الذي هو من صناعة الولايات المتحدة، كما هو معروف تماماً، في أفغانستان.

من المفارقات أن أميركا أطلقت وحوش “القاعدة” و”داعش” لتعود فتشن “الحرب على الإرهاب” ضد هذين التنظيمين، فتشهر بذلك رخصة للقتل الجماعي. وعلى سبيل المثال، أدى استخدام الطائرات من دون طيار لتوجيه ضربات مستهدفة ضد الإرهابيين المشتبه بهم إلى سقوط ضحايا مدنيين بأعداد كبيرة في بلدان مثل باكستان واليمن والصومال. وما تزال التنظيمات الدينية المتطرفة، التي نشأت إما كرد فعل ساخط على التدخل الأميركي في البلدان الإسلامية، أو كامتدادات لعملها الأساسي في تخليق هذه المنظمات لمقارعة السوفيات، تنزع استقرار الدول في أفريقيا وشرق آسيا وغيرها وتوقع الآلاف من الضحايا كل يوم.‏

‏إننا نتحدث هنا عن لاعب واحد فقط من معسكر “الحضارة والتنوير والقيم” الاستعماري الغربي الذي لا يمكن حصر أعداد ضحاياه. وفي الصورة الكبيرة، لا يكاد أحد من البشرية كلها وعلى مدى عقود ينجو من أعمال هذا المعسكر، من آخر شهيد ارتقى في فلسطين المحتلة، إلى مصرع فلويد (من نسل المستعبدين) تحت ركبة الشرطي الأبيض، إلى الإفريقي الذي تصطاده دورية في طريقه إلى الهروب من جحيم الفقر في أفريقيا. هذه هي قصة الإنسانية الأساسية، والباقي تفاصيل.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير