مستقبل الهيمنة في عصر الما بعد إنسانية..!

{title}
أخبار الأردن -

علاء الدين أبو زينة

ما يزال مسعى المثقفين والقوى السياسية والثقافية التقدمية في جنوب العالم هو بناء مجتمعات جديدة لما بعد الاستعمار، تكون متحررة حقا من الاعتماد على المركز الرأسمالي والهيمنة الثقافية الغربية. ويأتي هذا المسعى في إطار رد الإمبراطورية على استخدام قوى الشمال أدوات دائمة التطور لتمكين هيمنتها على الجنوب. وإذا كان ثمة شيء تسمح تلك القوى بحصولنا عليه، فهو السلع الاستهلاكية الانتقائية المشروطة، بأثمان مادية واعتبارية باهظة، وضمان أن لا تشكل هذه السلع أساسا تمكينيا يؤهل الجنوب للإنتاج والمنافسة.

سيكون من فرط التفاؤل توقع أن يأتي عصر الما بعد إنسانية بشيء أفضل. ويغلب أن تستمر التفاوتات في المعرفة والموارد اللازمة للتكيف مع العصر الجديد. سوف يفتقر الجنوب العالمي إلى البنية التحية، ومرافق البحث، والقوى العاملة المؤهلة لمواكبة التقدم المتصوّر. وستؤدي الإمكانات التقنية المتقدمة والتعزيزات البشرية المتوقعة إلى المزيد من تكديس المعرفة والموارد لجهة تمكين هيمنة الشمال وزيادة أدواته وحشية فحسب.

يغلب أن تتركز التقنيات المتقدمة للما بعد إنسان: التعزيزات المعرفية الفائقة أو التعديلات الجينية أو الغرسات الإلكترونية، في أيدي الذين يملكون. وسوف يعني تطوير هذه التقنيات الجديدة في الدول الغربية وعلى يد الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، احتكار هذه الجهات لأدوات تأكيد الهيمنة التقنية والاقتصادية على المناطق الأخرى والأفراد الآخرين. وستمثل هذه الدينامية شكلا من أشكال «الاستعمار التقني»، حيث يحتفظ الغرب بالنفوذ والسيطرة على تطوير واستخدام وتوزيع تقنيات الما بعد إنسان في العالم. وسوف يفضل اعتماد التعزيزات ما بعد البشرية في البداية الأفراد والجماعات الذين يشغلون مراكز السلطة ويحتكرون الامتيازات مسبقا. وسيؤدي هذا الواقع إلى تأكيد الفواصل في التسلسلات الهرمية الاجتماعية القائمة، وزيادة نفوذ النخب الغربية، وزيادة تهميش السكان المحرومين، داخليًا وخارجيًا.

سوف يترافق الاستعمار التقني باستعمار رقمي، حيث تتركز تقنيات الما بعد إنسان، خاصة المتعلقة ببيانات الذكاء الاصطناعي ووسائل المراقبة والسيطرة، لدى قوى الشمال. وسوف تستغل هذه القوى البيانات التي تستخلصها من الجنوب العالمي لتعزيز خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي لديها واستغلالها لاكتساب المزيد من التميز، بينما يصبح الجنوب العالمي أكثر عرضة لانتهاك الخصوصية، والخضوع للمراقبة والتلاعب الرقمي.‏

على مستوى الاقتصاد، يغلب أن تغير تقنيات الما بعد إنسان طبيعة العمل والإنتاجية. وسيكون القادرون على تحمل تكلفة التحسينات الجديدة والوصول إليها مؤهلين لاحتكار الميزة التنافسية في السوق العالمي. وسيؤدي ذلك إلى تفاقم الاستغلال الاقتصادي، حيث تستغل الشركات الغربية أو الأفراد العمالة والموارد في المناطق الأقل نموًا لتعظيم مكاسبهم. وسيظل الجنوب العالمي سوقًا مستهلِكًا لمنتجات وخدمات الما بعد إنسانية من دون أن يكون له دور يُذكر في تصميمها أو إنتاجها، فقط لتتفاقم ذلك الاختلالات الاقتصادية حيث تتدفق أرباح وفوائد تقنيات الما بعد إنسان إلى الشمال العالمي، في حين يتعمق عوز الجنوب العالمي اقتصاديًا.

أما عسكريا، فإن المقدمات تنذر بالنتائج. يغلب أن تعيد تقنيات الما بعد إنسان المتقدمة تشكيل ديناميات القوة العسكرية، حيث تتمتع القوى المتقدمة وحدها بإمكانية إدارة التعزيزات المتطورة لهيمنتها العسكرية بطريقة تفاقم عدم الاستقرار الجيوسياسي والصراع فحسب.

سوف تمكن تقنيات الما بعد إنسان تلك القوى من الاحتفاظ بالميزة التقنية الكبيرة على المناطق الأخرى وإبراز القوة بشكل أكثر فعالية لردع المنافسين المحتملين. ويمكن أن تكون تقنيات الما بعد إنسان ‏‏مضاعِفات‏‏ للقوة، تمكِّن القوات العسكرية المتقدمة من تحقيق فعالية أكبر بموارد أقل. وسوف تعني قدرة الأقوياء على نشر التقنيات المتقدمة، مثل المسيّرات ذاتية التشغيل، والمراقبة التي تعمل بطاقة الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الاستهداف المتقدمة، احتكارهم للميزة الاستراتيجية في ساحة المعركة. وسوف تمتد هذه الميزة إلى جمع المعلومات الاستخباراتية، وتوجيه الضربات الدقيقة، والقدرات العملياتية الشاملة.‏

سوف يكون امتلاك قدرات عسكرية متقدمة للغاية في مرحلة الما بعد إنسان أداة للدبلوماسية ‏‏القسرية‏‏، حيث تستفيد القوى الغربية من تفوقها التقني لتشكيل سلوك الدول الأخرى وتثبيط التحديات لمصالحها. ويمكن أن تطور قوى الهيمنة تمكين الأنظمة الوكيلة المحلية المستبدة، بالانتقال من تزويدها بالهراوات والغاز المسيل للدموع، وتقنيات المراقبة الإلكترونية، إلى تزويدها بالتعزيزات الجديدة التي تضاعف قدرتها على محاصرة مواطنيها وسيطرتها عليهم. 

يغلب أن يأتي التبني الواسع لتقنيات ما بعد الإنسان أيضا بمعايير ثقافية ومجتمعية متأثرة بشدة بأيديولوجيات القوى المتحكمة، وصولاً إلى الاستيعاب الثقافي للضعفاء وتهميش وتقويض هويات الثقافات المختلفة عن المركز المتقدم.

يقترح المشتغلون بفكرة الما بعد إنسان مجموعة من التوصيات التي تعالج هذه القضايا المحتملة وتخفف من تعزيز هيمنة القوى الكبيرة على الجنوب العالمي، فيوصون بالنقل المسؤول للتكنولوجيا، وتشجيع تبادل المعرفة والتعاون، وتعزيز الابتكار والخبرات المحلية. كما يقترحون دعم السياسات التي تعطي الأولوية للوصول العادل إلى تقنيات الما بعد إنسان وضمان أن تكون الاعتبارات الأخلاقية في طليعة تطويرها واستخدامها. ويعول البعض على إمكانية تعزيز التعاون والتضامن الإقليميين بين دول الجنوب العالمي لتعزيز صوتها الجماعي في تشكيل مسار الما بعد إنسانية. لكن توصياتهم يغلب أن تذهب إلى النسيان، بينما تُجبر أجيال الجنوب القادمة من البشر على خوض صراع مع الما بعد بشر، بما يمكن أن ينطوي عليه إهابه الجنس الجديد.‏

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير