عن فلسفة الحكم في الأردن
أخبار الأردن -
د. محمد أبو رمان
لم يكن عبور النظام الأردني محطات مفصلية حاسمة في تاريخه، ونجاحه في اجتياز منعرجات والتماسك والاستمرارية والتطوير والبناء، برغم محدودية الموارد، لم يكن ذلك كلّه صدفة أو من غير فلسفة حكم تغطس خلف السياسات والقرارات والمواقف، ونمط خاص من العلاقة بين القيادة والشارع..
في كتاب "زيد بن شاكر: من السلاح إلى الانفتاح." تروي المؤلفة نوزاد الساطي (وهي زوجة زيد بن شاكر؛ الذي كان قائداً للجيش الأردني لفترة طويلة ورئيساً للوزراء لثلاث مرات، وأحد أقرب الشخصيات سياسياً وإنسانياً للملك الراحل الحسين بن طلال) عن فاضل فهيد (كان قائداً عسكرياً ورئيساً لجهاز الأمن العام لاحقاً) أنّه في ذروة أحداث السبعين كانت الترجيحات الغربية والأميركية في الأغلب ترجح سقوط الدولة بيد الفصائل، وقد أصبحت 80% من عمان والمحافظات الشمالية خارج السيطرة، ومن النكت التي ترويها مؤلفة الكتاب، أن الملك سأل الشريف شاكر ما هو الموقف بالانجليزية وبالمصطلح العسكري الفني (Situation) ، فأجابه بأنّ السوريين دخلوا من الشمال وأنّ الفصائل أعلنت المنطقة الشمالية منطقة محررة، وأن هنالك تحركات للقوات العراقية الموجودة في الأردن، فقاطعه الملك قائلاً This is Shituation!
المقصود أنّ الأردن مرّ بمراحل ولحظات كان فيها النظام والاستقرار السياسي على الحافّة، وهنالك العديد من المواقف والقصص الشبيهة، لكن كانت هنالك فلسفة انبثقت عنها رؤية وترجمت من خلال السياسات والمواقف التي كانت مفهومة لكثير من الناس، والأهم أنّ هنالك فريقاً سياسياً صلباً قوياً متنوعاً حول الملك، سواء كان في مواقع رسمية أو غير رسمية!
من أبرز تلك الشخصيات الراحل الأستاذ عدنان أبو عودة، الذي كان يعمل في السبعينيات محللاً سياسياً في جهاز المخابرات العامة، وكان الملك الحسين قد تعرف عليه قبل عامين حين كان في زيارة للمخابرات وطلب تقييماً للأوضاع، فقال له ابو عودة جملته المشهورة: إنني لا أستبعد أن يهتز العرش بعد عامين، وهي كلمة أغضبت الملك في حينها، لكنه بدلاً من أن ينهي مسيرة أبو عودة الحكومية، قام بدون علم الأخير بتجهيزه وتهيئته في دورات تدريبية وبمتابعة عن بعد من الملك شخصياً للمرحلة التالية، وهو ما حدث فعلاً.. عندما طلبه وصفي التل (وبالمناسبة وصفي حينها لم يكن في النظام رسمياً، لكنه كان موجوداً دائماً بالقرب من الملك في التفكير والتخطيط وبناء الرؤية) وأخبره بأنّه – أي أبو عودة- سيكون وزيراً في الحكومة العسكرية، وأن المطلوب "أن نهمر عليهم" (على الفصائل؛ والمقصود استعادة القانون والدولة بإظهار القوة، ومحاولة تجنب المواجهات العسكرية قدر الإمكان).
وبمناسبة الحديث عن الأستاذ الراحل، عدنان أبو عودة؛ فقد كان يرى أنّ نجاح الملك الحسين في تلك الامتحانات العسيرة تمثّل بوجود فريق قوي ومتماسك يقود الدولة، ويمتلكون تصوراً للتعامل مع الأحداث، وكان يرى الراحل أبو عودة أنّ تعامل الملك الحسين كان في السبعينيات مع المنظمات، التي شكلت تحدياً للدولة والقانون والأمن، بينما التحدي اليوم أكثر تعقيداً وخطورة لأنّه ليس تحدياً خارجياً بل داخلياً وملتبساً!
فريق الملك في محطة السبعين تشكّل من وصفي التل وزيد بن شاكر وعدنان أبو عودة ونذير رشيد وحابس المجالي، ولا يزال كثيرون يذكرون كيف أنّ الملك أطلق سراح المعتقلين السياسيين في العام 1965، وذهب رئيس الوزراء حينها وصفي التل بنفسه لإطلاق سراحهم من السجن وخطب فيها خطبة حماسية، وكان الملك الحسين قد بدأ في الستينيات بالعفو عن السجناء السياسيين وإعادة إدماجهم في النظام السياسي، بالرغم من أنّ كثيراً منهم كان قد تورط في محاولة الانقلاب.
استحضار هذا التاريخ اليوم للتأكيد على أنّ ما تحتاجه الدولة اليوم هي النخبة والفريق القوي الذي يقود الدولة ويدرك فلسفة الحكم في الأردن ويقوم بترجمتها من خلال الرؤية والسياسات ولديه القدرة على الاشتباك مع الرأي العام والشارع ويمتلك لغة حديث واضحة مع المواطنين، وهي المهمة رقم واحد للخروج من حالة عدم اليقين وأزمة الثقة الخطيرة، والتعامل مع التحديات القادمة على الصعيد الداخلي والخارجي لعام سيكون صعباً وحاسماً في تاريخ الدولة..
العربي الجديد