هذا البركان الذي تتفرجون عليه

{title}
أخبار الأردن -

ذات مرة رافقني صديق عربي لامع الى مؤتة الكرك، ولأنه اعلامي، فإن بصيرته تختلف عن بقية البشر، كون بصائر الصحفيين، حساسة، وتلتقط الصورة، وما وراء الصورة من دلالات.

سألني سؤالا مباغتا ونحن نغادر مؤتة الكرك بعد زيارة للمقامات، وكنا في منتصف النهار، وقال لماذا هناك عشرات الشباب في المنطقة من اعمار عشرينية، في الشوارع، او يجلسون على الارصفة، فلا هم في الجامعة، ولا هم في الوظائف، يدخنون بشراهة، ويتبادلون الكلام، ووجوههم مرهقة، وحائرة، وكأن الريح تحت اقدامهم، او يخشون مجهولا يرتسم على محياهم؟

كانت هذه هي التقاطته السريعة خلال مرور السيارة في مناطق مختلفة، والاجابة كانت سهلة، فهؤلاء لا يعملون، حالهم حال بقية ابناء الاردن في كل مكان، وفي اغلب المدن والقرى الوادعة.

هذه القصة كانت قبل 10 سنين، وعلى الاغلب نشهد نفس الصورة اليوم، في كل مكان، عمان والطفيلة وعجلون واربد والرمثا ومادبا وغيرها من مناطق المملكة، التي يجلس الجميع فيها يحلمون بوظيفة حكومية، غير متوفرة، او بوظيفة في القطاع الخاص، لا تأتي معاجنهم بالخبز.

لكل هذا لم يعد هناك من حلول سوى الهجرة الى اي مكان، وفي دراسة حديثة أصدرها مركز الباروميتر العربي الشهر الماضي، في الاردن، تشارك في الرغبة بالهجرة إلى الولايات المتحدة أو دول أوروبية أو أجنبية بشكل عام نحو 48 % من الأردنيين، مقابل 38 % من اللبنانيين يفكرون في الهجرة، و35 % من العراقيين، و25 % من الفلسطينيين، و24 % من الليبيين.

مذهلة هذه النتيجة، وان كانت ليست غريبة، وقد تكون غير كافية للتعبير عما يواجهه البلد، حين نرى هذه البركان الصامت حتى الآن، يبرق بالإشارات الدخانية الأولية لانفجاره، دون ان يتلفت اليها احد في عمان، فنحن مشغولون فقط، بتطريز العناوين البراقة، وجدولة الاحلام.

المفارقات في هذه النتيجة، ان نسبة الأردنيين الراغبين بالهجرة، والأردن بلد مستقر عموما، اعلى بكثير من بلد مثل فلسطين، تحت الاحتلال، واعلى من بلد مثل لبنان لا كهرباء فيه ولا خبز ولا امان، واعلى من بلد مثل العراق يعاني من الطائفية، والقتل، والتشظي، والحرب الاهلية، واعلى من بلد مثل ليبيا يعاني من الانقسام والارهاب والفوضى والقتل في مواقع عدة.

في المقابل تخرج الجهات الرسمية، وتعد بمليون وظيفة خلال السنوات المقبلة، فيما يعرف جميعنا ان نصف الخريجين بلا عمل، اصلا، والنصف الثاني يعمل برواتب دون الثلاثمائة دينار، وهو مبلغ يحصل عليه الخريج من اجل انجاح صاحب المشروع، وزيادة ارباحه، عبر قبوله بهكذا مبلغ، وهو مبلغ لا يغطي مواصلاته هذه الايام، ولا كلفة اتصالاته، ولا لقمة الغداء خارج المنزل.

سياسات التعليم الجامعي العقيمة، دمرت ابناء البلد، عشرات الآلاف يتخرجون سنويا من تخصصات لا مستقبل لها، مهنيا ولا ماليا، وبرغم ذلك تبقى التخصصات مفتوحة، من الجغرافيا الى التاريخ، مرورا باللغتين العربية والانجليزية، والعلوم السياسية، ومعلم الصف، وغير ذلك من تخصصات، تعد مضيعة للعمر والوقت والمال، وسط غياب لتخصصات جديدة.

والاهالي ذاتهم يعمقون المشكلة فهم يبحثون عن القاب، مجرد القاب لأبنائهم، دون اي جدوى، فهذا مهندس ينضم الى عشرات الاف المهندسين بلا عمل، وذاك طبيب عام بلا تخصص كونه غير قادر على التخصص، وثالث ولد بلقب عطوفة لكنه لم يجد الفرصة للحصول على موقعه وممارسة سلطته، فالمهم هو اللقب حتى لو كان غير منتج، ما دام الفخر الزائف يسيطر علينا.

نحن امام خطر كبير، لا يكفي معه الكلام عن كون هذا الواقع، موجود في كل مكان، وحين تخسر الدولة سندها من ملايين الشباب، ذكورا واناثا، وتحولهم الى كتلة ساخطة او محايدة، تريد القفز من السفينة، فهي تخسر اهم ما لديها، اي خزان الدم، ما يعنيه من انتماء وفرص للتطور.

الدولة لم تعد صانعة وظائف بالمعنى المتعارف عليه، ولا هي تترك القطاع الخاص لينمو ويولد فرص العمل، وعليها ان تجد حلا لهذه الازمة، بدلا من التفرج، وكأن الامر لا يعنيها.

نصف الأردنيين يرغبون بالهجرة، وهم يسبقون شعوبا تحت الاحتلال، او تعاني من الفوضى والحرب الاهلية، والاقتتال، والانقسام، فتأملوا رعاكم الله، هذه الدلالة وحدها لتقول كل شيء.
 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير