يمنع دخول الحنابلة إلى الفيسبوك!
بقلم: د. بهاء الدين التميمي
طبعاً العنوان على سبيل الفكاهة ولكنه يعكس أموراً عظيمة وتاريخاً كبيراً من صراع الحنابلة مع المذاهب الأخرى لاختلاف الفكر والمنهج ، فمثلاً كانت احدى المدارس الدينية في العصر المملوكي في دمشق كتب على بابها:( يمنع دخول الحنابلة) وذلك لكثرة جدالهم وتعصبهم، وظهر هذا الأمر في نقاش وفاة شيرين أبو عاقلة حيث اذا قيل لأحدهم هناك العديد من الشافعية اجازوا ذلك فتعصب للرأي المخالف!
ومن تداعيات الصراعات المذهبية وتعصب الحنابلة المتأخرين عبر ألف عام انتشار لفظ ( لا تحنبل الأمور ) بين العوام!
حتى ان بعض الشافعية في العصر المملوكي أمر بفرض الجزية على الحنابلة بعد تكفيرهم والتكفير كان متبادلا ، وطبعاً الامام احمد بن حنبل رحمه الله بريء من تصرفات متأخري الحنابلة
يقول ابن خلدون ( توفي ١٤٠٦ م) في مقدمته عن الحنابلة:
(فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل ، لبعد مذهبه عن الاجتهاد ،و أصالته في معاضدة الرواية و الأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها )
والدولة الوحيدة التي اعتمدت مذهب ابن حنبل هي اواخر الدولة العباسية بينما كل الدول التي جاءت اثناء وبعد الدولة العباسية اعتمدت المذاهب الثلاثة الاخرى وقد يكون السبب ان علماء الحنابلة كانوا أكثر جموداً من مجاراة الواقع والمرونة في الفقه من علماء المذاهب الأخرى
فالدولة السلجوقية والزنكية والايوبية( صلاح الدين الايوبي) اعتمدت المذهب الشافعي ، والمماليك بين الشافعية والحنفية وانتشار المالكية في المغرب العربي بينما جاءت الدولة العثمانية ونشرت المذهب الحنفي بل قضت تماما عبر ٤٠٠ سنة في المشرق على اثار الحنابلة تماماً مع بعض الاثار القليلة
وما حدث في الثورة الوهابية على الدولة العثمانية وتأسيس المملكة السعودية هو اعادة إحياء المذهب الحنبلي في الفقه ومذهب بعض الحنابلة في العقيدة وهو مذهب اهل الحديث وكذلك جاء معه منهج جديد طبع بطابع محلي ، وتم تسويق المذهب والمنهج الفكري بأموال ضخمة عبر ١٠٠ سنة ليطغى هذا المنهج حتى على مناهج المذاهب الاخرى المنتشرة في العراق والشام ومصر وتتحول رحابة اختلاف الاراء والفقه وتنوعه الى رأي واحد مما ضيق على الناس وتم اختزال التنوع الفقهي في ١٤٠٠ عام الى لون واحد اريد فرضه وتم اعادة تسمية هذا الفكر والنهج بالمذهب السلفي وغيره ضال! حتى ان هذا المنهج السلفي الحديث أصبح مدرسة فكرية بدت آثارها حتى على بعض الفقهاء المعاصرين بغض النظر عن مذاهبهم، وذلك لعظم القوة السياسية الاقتصادية التعليمية الدينية للسعودية منذ ضم الحجاز للسعودية عام ١٩٢٥ م وظهور النفط
ولو عدنا للخلاف المنهجي بين الحنابلة وغيرهم في التاريخ لوجدنا مثلاً لما مات العالم الجليل ابن جرير الطبري عام ٩٢٣ م منع الحنابلة دفنه في المقابر "ولم يُؤذَنْ به أحد، ودُفن في داره" (الخطيب: تارخ بغداد)
وأورد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘إنباء الغُمْر‘- أنه في سنة 835هـ/1432م "ثارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق، وتعصب الشيخ علاء الدين البخاري (الحنفي المتوفى 841هـ/1437م).. على الحنابلة وبالغ في الحط على ابن تيمية وصرح بتفكيره، فتعصب جماعة من الدماشقة لابن تيمية".
وقد سجن ابن تيمية رحمه الله سبع مرات في دمشق والاسكندرية والقاهرة بسبب تشدده في اراءه وأيضا نيله من علماء او متكلمين آخرين فهو لا ينزل عن رأيه ابداً ولا يداهن وقد كان صعباً على الحنابلة العيش في بيئة شافعية حنفية صوفية
واثناء الدولة العثمانية عبر ٤٠٠ سنة في المشرق لم يكن اسم ابن تيمية يتردد بين العلماء والفقهاء كمرجع في الفقه في دمشق والحجاز والقاهرة واسطنبول والمغرب العربي بل كان نادراً جداً ما كان أحدٌ يذكر اسمه رغم انه عالم جليل مجاهد رحمه الله
ومن مظاهر الصراع المذهبي ما قبل ابن تيمية
ابن كثير (ت 774هـ/1372م) يذكر –في ‘البداية والنهاية‘- أنه في سنة 447هـ/1056م "وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة (ببغداد)، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجُمُعة ولا الجماعات" للصلوات!! وفي سنة 469هـ/1076م اندلعت فتنة الشيخ أبي نصر ابن القشيري (ت 514هـ/1120م) -أو فتنة الحنابلة- حيث "بلغ الأمر إلى السيف" بتعبير الذهبي، ومات عدد من الحنابلة والأشعرية.
وبهذه الفتنة أرّخ الحافظ ابن عساكر لحظة بدء الصراع بين الفرقين؛ فقال فيما رواه عنه ابن تيمية في ‘الفتاوي‘: "ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة ابن القشيري
ويعلق حجة الاسلام الغزالي رحمه الله ( ت ١١١١ م) حول هذه الصراعات المذهبية (ومبدأُ التعصبِ: حرصُ جماعةٍ على طلب الرئاسة باستتباع العوامّ، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر والتناصر، فجُعلت المذاهبُ في تفصيل الأديان جامعاً، فانقسمَ الناسُ فِرَقاً، وتحركت غوائل الحسدِ والمنافسةِ فاشتدّ تعصّبُهم، واستحكمَ به تناصرُهم)
ويشير حجة الإسلام الغزاليّ في ‘المنقذ من الضلال‘- إلى هذه اللمحة الدقيقة حين يحذّر من أن يقود الخلاف العلمي إلى "سفكِ الدماء وتخريب البلاد وإيتام الأولاد، وقطع الطريقِ والإغارة على الأموال". فهو يريد أن يُبقي الخلاف -مهما كان أصوليا وعقديا- في إطار الدرس العلمي، وفي نطاق الخلاف العلمائيّ الضيّق، دون أن ينسحب إلى المجتمع والعامّة.
وفي النهاية جدير بالذكر ان المذهب الحنبلي مذهب متنوع الاراء وفيه سعة، فمثلا قد يكون المذهب الوحيد الذي أجاز إمامة المرأة لزوجها وعائلتها في صلاة التراويح كما ذكر بالمسند
ولكن المذهب يتطبع بطبائع علماءه ومن يتصدى بإسمه في عصر من العصور نتيجة ظروف فكرية أو سياسية مختلفة