الطورة يكتب: التقنية الذكية والذكاء الاصطناعي كأفق لإعادة تشكيل البنية السياسية والاقتصادية في الأردن.
[بقلم: صفوت زيد الطورة]
في عصر تتسارع فيه التحولات كأنها سباق مع الوقت، لم يعد ممكنًا للدول أن تظل متفرجة على قطار التكنولوجيا وهو يمضي مسرعًا، بل أصبح لزامًا عليها أن تحدد موقعها من هذا المشهد العالمي، وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد أصبح عنوانًا لعصر جديد، فإن الأردن يجد نفسه أمام سؤال مصيري: هل سيتعامل مع هذه الموجة كترف فكري وشعار تجميلي، أم سيحوّلها إلى فرصة لتحديث منظومته السياسية والاقتصادية بما ينسجم مع احتياجاته الداخلية وتطلعات شعبه؟
وعند النظر إلى الواقع الأردني نجد أن الصورة مركبة؛ فمن ناحية، يواجه الاقتصاد تحديات ثقيلة تتمثل في ارتفاع المديونية، وتضخم نسب البطالة، ومحدودية الموارد الطبيعية، وهو ما انعكس على ثقة المواطن بالمؤسسات السياسية والاقتصادية، لكن من ناحية أخرى، بدأت تلوح في الأفق مؤشرات واقعية تدل على قدرة الأردن في توظيف أدوات الثورة الرقمية، إذ أطلق البنك المركزي منظومة الدفع الإلكتروني "إي فواتيركم" التي اختصرت الكثير من الإجراءات ورفعت مستوى الشفافية المالية، كما قدمت الحكومة تطبيق "سند" ليكون منصة رقمية للخدمات الرسمية بدلًا من طوابير الانتظار الطويلة. وهنا يظهر بوضوح أن التكنولوجيا ليست بعيدة عن الواقع الأردني، بل إنها بدأت تدخل تدريجيًا في حياة الناس اليومية.
وانطلاقًا من هذه التجارب، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي قد يشكل إضافة نوعية للمسار السياسي إذا استُخدم بذكاء في تطوير منصات رقمية ترصد اتجاهات الرأي العام بشكل لحظي، بما يمنح صانع القرار فرصة لفهم المزاج الشعبي واستيعاب أولوياته قبل أن تتفاقم الأزمات، ومن هنا يصبح القرار السياسي أكثر قربًا من نبض الشارع، وأقدر على ترميم جسور الثقة التي اهتزت بين المواطن ومؤسساته، ولعل هذه النقطة بالذات تعكس جوهر التحول؛ فالسياسة التي تدار عبر بيانات دقيقة تختلف جذريًا عن تلك التي تُبنى على الانطباعات والقراءات المجتزأة.
وإذا كان المجال السياسي يحتمل الكثير من التجديد، فإن المجال الاقتصادي يبدو أكثر إلحاحًا وأشد وضوحًا في حاجته إلى الذكاء الاصطناعي، فالأردن، الذي يعاني من شحّ المياه، بدأ بتجارب في مجال الزراعة الذكية باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد وأنظمة الري الحديثة، الأمر الذي ساعد في تقليل الهدر ورفع الإنتاجية. وهنا يمكن للتقنيات المتقدمة أن تعزز هذه النجاحات، إذ بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يتنبأ بالطقس ويحلل التربة ويضبط توزيع الموارد المائية بكفاءة أعلى، وإذا انتقلنا إلى قطاع الطاقة، وجدنا أن مشاريع الطاقة الشمسية والرياح في معان والطفيلة والشوبك قد أثبتت قدرة الأردن على الاستثمار في مصادر نظيفة، ومع إدخال الذكاء الاصطناعي لإدارة الشبكات الكهربائية وتوزيع الأحمال، يمكن لهذه المشاريع أن تصبح أكثر فاعلية وأقوى أثرًا على الاقتصاد الوطني.
لكن هذا المسار الطموح لا يمكن أن ينجح بالاعتماد على التكنولوجيا وحدها؛ فالتجارب العالمية تؤكد أن أي مشروع للتحول الرقمي يحتاج إلى إرادة سياسية وتشريعات مرنة تحمي البيانات وتؤسس لثقة رقمية وطنية.
وهنا تتضح الحقيقة بأن الذكاء الاصطناعي لا يزدهر في فراغ، بل في بيئة سياسية واقتصادية حاضنة، قادرة على جعل التقنية وسيلة لتعزيز الشفافية والكفاءة بدلًا من أن تبقى مجرد شعارات. ومن هنا فإن التحديث في الحالة الأردنية لا بد أن يُفهم باعتباره مشروعًا متكاملًا يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ويمنح العقد الاجتماعي معنى جديدًا في زمن الثورة الرقمية.
ولعل من المفيد التذكير بأن النجاح في هذا المضمار لا يرتبط بالضرورة بوفرة الموارد أو حجم الدولة، بل برؤية وجرأة في اتخاذ القرار، فهناك دول صغيرة استطاعت أن تتحول إلى مراكز إقليمية للابتكار والتكنولوجيا فقط لأنها تبنت الذكاء الاصطناعي كجزء من استراتيجيتها الوطنية، وهو ما يمكن للأردن أن يحاكيه من خلال الاستثمار في طاقات شبابه الذين يشكلون أكثر من ثلثي المجتمع، والذين يبحثون عن فضاءات أوسع للإبداع والمشاركة، وهنا يصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل رافعة لتمكين الشباب وإدماجهم في مشروع وطني جامع.
وعند الوصول إلى هذه النقطة، يتضح أن المسألة لم تعد مرتبطة بإمكانية اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي، بل بكيفية صياغة مشروع أردني خاص يوظف هذه الثورة الرقمية لصالح تجديد المنظومة السياسية والاقتصادية. فالمستقبل لن يُقاس بكم الأجهزة المستوردة ولا بحجم الاستثمارات التقنية وحدها، بل بقدرة الأردن على تحويل هذه الأدوات إلى قوة تغيير حقيقية.
وبناء على ذلك، تتجلى الخلاصة: إن أعظم ما يمكن أن يخسره الأردن ليس تأخره عن اقتناء التكنولوجيا، بل تأخره عن تحويلها إلى ثقافة وإدارة وإرادة، تجعل من الذكاء الاصطناعي أفقًا مفتوحًا للشفافية والتنمية وعدالة الفرص، بل وربما مدخلًا إلى عقد اجتماعي جديد أكثر وعيًا بإنسان هذا العصر وتطلعاته.

