أبو رحمة يكتب من غزة : القيم الأخلاقية في خطاب الملكة رانيا: حين غابت إنسانية العالم عن غزة
بقلم: د. سعيد محمد أبو رحمة
فلسطين- غزة
في كلمة مؤثرة حملت أبعادًا أخلاقية وإنسانية وسياسية، خاطبت الملكة رانيا العالم من منصة مؤتمر "سيغلو 21" في المكسيك، لتجعل من أطفال غزة نقطة الارتكاز في نقاش عالمي حول الذكاء الاصطناعي والمستقبل. الخطاب، الذي جاء محكمًا من حيث البناء اللغوي والمضمون الرمزي، كشف زيف المعايير الدولية وكسر صمتًا رسميًا خانقًا تجاه حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القطاع.
اعتمد الخطاب على مستويين متداخلين:
- شخصي إنساني: عبر توجيه الملكة نداءً باسم أمهات غزة، وتحويل مأساة الطفلة "هند" إلى رمز لمعاناة الطفولة.
- عالمي أخلاقي: حين قالت إن "غزة أصبحت عدسة نرى من خلالها العالم"، كانت تُعيد صياغة مركزية القضية الفلسطينية كمقياس لضمير البشرية.
هذا التفكيك يكشف أن الخطاب لم يكن انفعالًا عاطفيًا، بل استراتيجية بلاغية واعية تربط بين المأساة والواجب الأخلاقي العالمي.
هذا الربط بين حرب غزة وتطور التكنولوجيا يحمل دلالات متعددة:
- إدانة لمجتمع غربي يطوّر أدواته ويخسر قيمه.
- إدراج غزة في خطاب المستقبل، لا كعبء، بل كاختبار للعدالة.
- نقد غير مباشر للدول التي تصمت على الإبادة تحت غطاء "التقدم".
تمكّنت الملكة من كسر الصورة النمطية للخطاب العربي الرسمي، وقدمت لغة عالمية غير شعاراتية، تخاطب العواطف والعقول. ونبرة حازمة بلا عداء مباشر، تُحرج الصمت الغربي دون صدام. بالاضافة لدورً إنسانيً للقيادة الأردنية، يوازي دور المؤسسات الحقوقية. حيث حملت حملت كلمة الملكة رانيا العديد من الرسائل على كافة المستويات الغربية والشعبوية وصناع القرار.
ظهرت الملكة رانيا بملامح حزينة ولكن حازمة. اختيارها للغة إنجليزية رصينة ونبرة هادئة، مع مشاهد الأطفال التي عُرضت، خلق توازنًا بين العاطفة والتأثير السياسي. الخطاب كُتب ليُستَخدم إعلاميًا، ويُعاد نشره مرارًا ضمن الحملات الحقوقية. وأدركت الملكة رانيا أن الوقت مناسب لإعادة مركزية الرواية الفلسطينية من باب الضمير، لا فقط القانون الدولي.
ويأتي الخطاب في لحظة حساسة:
- مع توالي التقارير الدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.
- وتحوّل الرأي العام العالمي، خاصة في الجامعات والنقابات الأوروبية، ضد الرواية الإسرائيلية.
ولتحليل دلالات خطاب الملكة رانيا في مؤتمر "سيغلو" بالمكسيك نكتشف أبعادًا عميقة تتجاوز الإطار الإنساني البحت، وتحمل رسائل سياسية وأخلاقية مركّبة، في لحظة فارقة تمر بها القضية الفلسطينية، خصوصًا في غزة. إليك أبرز الدلالات:
فاختيار مؤتمر دولي يعنى بالمستقبل والتكنولوجيا، لا بالشؤون السياسية، كان مقصودًا لإيصال القضية إلى جمهور غير منخرط عادة في ملفات الصراع. وهذا يُخرج فلسطين من زاوية أزمة محلية إلى إطار أخلاقي كوني، حيث يُطرح سؤال: ما قيمة التقدّم التقني في ظل العجز الإنساني؟
لقد استخدمت الملكة لغة حادة ولكن غير مباشرة حين قالت إننا "نرى العالم عبر عدسة غزة". وهذا يحمل إدانة ضمنية لانتقائية المعايير الدولية في التعامل مع الضحايا تبعًا لهويتهم وجغرافيتهم.
يعكس الخطاب حرص الأردن على ممارسة دور متقدم في الدفاع عن الفلسطينيين، ليس فقط عبر السياسة، بل عبر الرمزية الأخلاقية والشخصيات المؤثرة. مثلت الملكة رانيا ضميرًا ناطقًا باسم الشعوب، وتُقدّم نموذجًا لخطاب عربي غير تقليدي. وينافس بذكاء السردية الصهيونية التي طالما قدّمت إسرائيل كضحية دائمة. حيث قلبُ المعادلة بأن غزة هي المرآة التي تكشف ضمير العالم.
حين تحدثت الملكة عن اختبار الإنسانية، خاطبت الشعوب الغربية مباشرة، دون انتظار موقف حكومي. وهذا تحفيز للرأي العام العالمي لممارسة الضغط من القاعدة، خاصة في ظل إخفاق الدبلوماسية.
إن دموع الملكة، ونبرتها المتأثرة، لم تكن ضعفًا بل أداة بلاغية مدروسة. العالم بات يتأثر بالسرد العاطفي أكثر من الخطاب الأيديولوجي.
إن خطاب الملكة رانيا في مؤتمر "سيغلو" لم يكن تعبيرًا عن موقف إنساني فقط، بل تحركًا استراتيجيًا محسوبًا لتعزيز السردية الفلسطينية عالميًا. في ظل تعطل لغة السياسة، تصبح لغة الأخلاق أكثر تأثيرًا. غزة اليوم ليست فقط تحت القصف، بل في صلب معركة الرواية، والملكة رانيا اختارت أن تكون صوت الطفلة "هند" في قاعات المستقبل، قبل أن تُدفن في ركام النسيان.
ويُضاف هذا الخطاب إلى سلسلة جهود فلسطينية وعربية لإعادة صياغة الرواية: من ضحية إرهاب إلى ضحية إبادة.و يُستخدم سياسيًا وحقوقيًا وإعلاميًا كوثيقة إدانة أخلاقية للمنظومة الدولية الصامتة.
خطاب الملكة رانيا لم يكن مجرد كلمة دعم لغزة، بل كان فعلاً سياسياً بلباس إنساني، جاء في توقيت حساس، ليعيد تموضع القضية الفلسطينية في الضمير العالمي ، ويُسائل البشرية: هل يمكن حقًا الوثوق بعالم يهتم بالروبوتات أكثر من الأطفال المحاصرين؟

