الفضيل يكتب: اليمن: سردية أخرى
زيد الفضيل
استثار لقاء إذاعة ثمانية مع الكاتب ضياء خالد السعيدي عددا من الإعلاميين اليمنيين الذين عملوا على مهاجمة الكاتب واتهامه بالرجعية، وتلك أبسط الاتهامات، وكل ذلك لأنه قدم سردية أخرى لواقع التاريخ اليمني مختلفة عما عملوا على تقديمه وروايته وتأكيده في إطار الخطاب الإعلامي منذ ابتداء الحقبة الجمهورية مطلع الستينات من القرن المنصرم.
في حواره السارد لم يقل السعيدي شيئا خارج التاريخ، وما تحدث به - وإن كنت أختلف معه في بعض جوانبه - مرصود في كثير من الكتب التاريخية المرجعية، والتي تم تأليفها بمنهجية علمية بعيدا عن لغة الاستقواء الطائفي أو العرقي، ذلك الاستقواء الذي اتسم به الخطاب الجمهوري طوال العقود السالفة، حيث لم يقتصر في تجريمه لحقبة محددة من الزمن وهي الحقبة الملكية الحديثة الممتدة من (1904 – 1962م)، وإنما أخذ يجرم (بانتقائية سياسية مبنية على رؤية عرقية) حقبة تاريخية ممتدة لألف ومئتي عام، وهي حقبة دولة الأئمة في اليمن والتي تركزت في شمال الشمال، ودون أن يتوسع الخطاب بنقده أو تجريمه للدول التي عاصرتها في المناطق الوسطى والتي امتد نفوذها ليشمل صنعاء وغيرها من أجزاء اليمن كالدولة الصليحية والأيوبية والرسولية والطاهرية وغيرها، علاوة على عديد من الكيانات السياسية في جنوب اليمن.
مع الإشارة إلى أن تلك الدول قد نشأت وحكمت بقيادة يمنية من مختلف الشرائح والمناطق، وصولا إلى الدولة الحديثة التي شارك في تكوينها أيضا يمنيون من مختلف الشرائح والمناطق، ولن ينسى التاريخ الحديث التأثير المهم للشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر الذي كان له الدور الأبرز في تقلد الإمام يحيى مقاليد الحكم عام 1904م.
كما أشير إلى أن الخطاب الإعلامي خلال العقود السالفة قد بنى نقده وتجريمه لحقبة دولة الإمامة انطلاقا من مقاييس ومبادئ مدنية معاصرة، ووفقا لظرف زماني ومكاني وسياق مجتمعي حديث، وحتما فذلك هو الخطأ بعينه الذي أدى إلى اضطراب الحال في اليمن الجمهوري بوجه عام، ولعل الفترة الوحيدة التي عاش فيها الشطر الشمالي من اليمن بسلام وكادت الجمهورية أن تنجح في مبناها الوظيفي، هي فترة الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي انطلق في مبادئه من رؤية وطنية شاملة لا ترتكز على الخلاف الطائفي أو الصراع العُصبوي بين القحطانية والعدنانية وفق ما تبناه البعض قبل وبعد فترة رئاسته.
أسوق ذلك لأشير إلى جانب مهم من إشكال اليمن المعاصر، وأقصد به حيثيات الصراع العصبوي الذي قاده جماعة "أقيال اليمن" والداعي إلى تمجيد العصبية القحطانية في مقابل محاربة العصبية القرشية العدنانية، وقد بدأت أولى بواكير هذه الدعوة المقيتة عام 1961م وفق ما وثقه الشيخ سنان أبو لحوم في كتابه "اليمن حقائق ووثائق عشتها" حيث قال "ويوم 12/10/ 1961م كنت في البيت متعبا فزارني قاسم غالب وتحدثت معه كثيرا، وكان عائدا من القاهرة وأثنى على البيضاني، وقال: إننا غيرنا الفكرة إلى القحطانية والهاشمية، لأنها كانت مفيدة، فقد انتهت النعرة بين الشافعية والزيدية، وهو كان من دعاة ذلك".
هكذا سارت الأحوال بشكل عام ولا سيما في إطار الخطاب الإعلامي، كما أنه ظل حبيس فئة اجتماعية محددة، ولم يتجذر في ربوع المجتمع اليمني جملة وبخاصة في إطار المجتمع القبلي الذي ظل بعيدا في وجدانه عن مختلف السياقات الطائفية والعصبوية المقيتة، وهو ما بينته في عديد من المقالات والدراسات ومنها ما نشرته بمجلة "آراء" الصادرة عن مركز الخليج للأبحاث، وما كتبته من قبل في صحيفة "الشرق الأوسط" وجريدة "المدينة"، مشددا على أهمية فهم طبيعة الأزمة في اليمن، ومعرفة واقع المجتمع اليمني واختلاف طبيعته وهويته وذاكرته التي يصعب تجاوزها، لا سيما في إطار ما هو عليه من طبيعة محافظة، حيث ينقسم أبناؤه بين شمال قبلي، ووسط زراعي، وجنوب غلب عليه الانتماء المناطقي.
أخيرا أؤكد كمختص في الشأن اليمني أن ما قدمه الكاتب ضياء في بودكاست فنجان هو قراءة أخرى للمشهد اليمني أقرب للحقيقة من حيث بنيتها ونتيجتها، وهي سردية تفرض علينا في المشهد السعودي أن نتأملها وننفتح عليها وعلى غيرها للوصول إلى حقيقة المشهد، وإيجاد مقاربة سياسية تجمع اليمنيين بمنأى عن أي طرح طائفي أو عصبوي يتم إثارته هنا أو هناك، وكم هو جدير أن ننقل تجربتنا السعودية للآخرين والتي نعيش فيها بوعي وطني في ظل راية واحدة، شعارها التوحيد، وقوامها المساواة، فطوبى لنا ما نحن فيه ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

