قندح يكتب: البصمة الكربونية للسائح ..وجه آخر للسفر
د.عدلي قندح
في عالم يواجه تحديات بيئية واقتصادية متزايدة، بات مفهوم البصمة الكربونية للسائح محوريًا في صياغة سياسات السياحة المستدامة، لا سيما في الدول التي تعتمد بشكل أساسي على هذا القطاع كمصدر من مصادر الدخل القومي. ويُعد إدماج الاعتبارات البيئية في النشاط السياحي خطوة أساسية نحو تحقيق تنمية متوازنة تدمج بين حماية الموارد الطبيعية وتعزيز النمو الاقتصادي. ومع تسارع التغيرات المناخية، لم يعد الاهتمام بالبصمة الكربونية ترفًا فكريًا، بل أصبح ضرورة علمية وعملية تفرض نفسها على الأجندات الوطنية والدولية.
تُعرف البصمة الكربونية للسائح بأنها كمية الغازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، التي يُنتجها الفرد خلال رحلته السياحية، بما يشمل وسائل النقل التي يستخدمها، والإقامة في الفنادق أو المرافق السياحية، وأنماط استهلاكه للطعام والخدمات، بالإضافة إلى طبيعة الأنشطة التي يمارسها أثناء الرحلة. ويعكس هذا المؤشر الأثر البيئي الكلي للسائح، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يجعل من قياسه وتحليله أداة فعّالة لرسم سياسات سياحية بيئية متوازنة.
ويتم احتساب البصمة الكربونية من خلال أدوات رقمية دقيقة تعتمد على تحليل عدة متغيرات؛ منها المسافات التي يقطعها السائح ووسائل النقل المستخدمة، ومدة الإقامة، ونوع الخدمات الفندقية المستعملة، ومستوى استهلاك الموارد، وكذلك نوع الأنشطة السياحية. وقد طورت العديد من الدول والمنظمات تطبيقات رقمية تسمح للسائحين بحساب بصمتهم الكربونية بشكل شخصي، وتقديم خيارات لتعويض هذه الانبعاثات، كالتبرع لمشاريع تشجير أو استثمار في مصادر الطاقة النظيفة.
إن تطبيق مفهوم البصمة الكربونية في الأردن يُعد فرصة ذهبية تتقاطع مع أهدافه في تحقيق التنمية المستدامة، خاصة في ظل ما يتمتع به من مقومات سياحية متنوعة وثرية. ويُمكن تفعيل هذا المفهوم عبر إدراج حاسبات كربونية في المنصات الرقمية للقطاع السياحي، وتوجيه السياح نحو الخيارات الصديقة للبيئة، مثل السياحة الريفية والمجتمعية، أو الأنشطة منخفضة الانبعاثات. كما يمكن تطوير برامج تعويض كربوني محلية تستند إلى مشاريع بيئية تنموية، كتوسيع المساحات الخضراء في المناطق السياحية، أو دعم الطاقة المتجددة في القرى والمجتمعات المستضيفة.
تجارب الدول الرائدة في هذا المجال، مثل كوستاريكا ونيوزيلندا والسويد، تقدّم نماذج ملهمة في كيفية دمج البعد الكربوني في منظومة السياحة. فقد أظهرت هذه الدول أن فرض رسوم كربونية بسيطة على السائحين وتوجيهها لمشاريع بيئية واقتصادية محلية، إلى جانب توفير المعلومات البيئية للسائح، يعزز من وعي الزوار ويخلق مصادر دخل إضافية للدولة والمجتمع. كما أن تصنيف الفنادق والمرافق السياحية بناءً على التزامها بخفض الانبعاثات أسهم في رفع جودة الخدمات وتعزيز الاستدامة دون التأثير سلبًا على الجاذبية السياحية.
من الناحية الاقتصادية، فإن إدماج نظام محلي لحساب البصمة الكربونية من شأنه أن يفتح آفاقًا جديدة للإيرادات الوطنية. فبجانب الرسوم الكربونية الطوعية أو الرسمية، تزداد فرص التوظيف في قطاعات خضراء ناشئة مثل الزراعة المستدامة، والطاقة الشمسية، وإعادة التدوير. كما يُسهم هذا النظام في جذب فئة متزايدة من السياح الذين يفضلون الوجهات البيئية المسؤولة، مما يفتح السوق الأردنية أمام شرائح جديدة من الزوار، خاصة من الدول الأوروبية والأميركية ذات الوعي البيئي العالي.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فإن تقليل البصمة الكربونية في القطاع السياحي يدعم استدامة الموارد الطبيعية، ويقلل من استنزاف البنى التحتية والخدمات، ويُسهم في بناء صورة إيجابية للأردن كوجهة مسؤولة ومتزنة بيئيًا. كما أن هذا التوجه يعزز من فرص المملكة في الحصول على دعم دولي وتمويل أخضر من الجهات المانحة والمنظمات البيئية العالمية، باعتبارها تندرج ضمن الدول التي تطبق نهج الاقتصاد الأخضر وتتماشى مع أهداف التنمية المستدامة، لاسيما الهدف المتعلق بالعمل المناخي.
إن تطبيق مفهوم البصمة الكربونية للسائح في الأردن ليس مجرد استجابة لضغوط بيئية عالمية، بل هو خيار استراتيجي لبناء اقتصاد مرن، قادر على تحقيق التوازن بين متطلبات النمو والحفاظ على الموارد. كما يشكّل فرصة حقيقية لزيادة الدخل المحلي من السياحة وتحسين مستوى الخدمات، إلى جانب تمكين المجتمعات المحلية من لعب دور فاعل في حماية بيئتها وجني ثمار الاستدامة على المدى البعيد. وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات بيئية واقتصادية، فإن الأردن اليوم أمام نافذة تاريخية للانتقال نحو نموذج سياحي واقتصادي أكثر عدالة وتوازناً وشمولاً.
وقد جاءت هذه الرؤية ضمن مشاركتي في مؤتمر وجهات Destinations للسياحة في الأردن، حيث عرضتُ مفهوم البصمة الكربونية للسائح كمدخل عملي لتعزيز الاستدامة في القطاع السياحي الأردني، وربطها بشكل مباشر بالتنمية الاقتصادية المحلية وتحقيق إيرادات جديدة للمجتمعات والدولة. إن تبني هذا النموذج يشكّل خطوة متقدمة نحو ترسيخ مكانة الأردن كوجهة سياحية مسؤولة بيئيًا، وقادرة على الموازنة بين الجذب السياحي والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.

