أين موقع العرب من القادم؟... طريق الحرير الهندي مثالًا
قال الأستاذ المشارك والباحث المتخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية الدكتور علي النظامي إن مشروع "طريق الحرير الهندي" يبرز بوصفه أحد أبرز تجليات التنافس الجيو - اقتصادي والتموضع الاستراتيجي الجديد الذي تسعى من خلاله القوى الكبرى إلى إعادة صياغة معادلات النفوذ الإقليمي، وتوجيه تدفقات التجارة والطاقة بما يخدم مصالحها العميقة.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن المسارات البحرية والمفاصل الجغرافية تحولت إلى أدوات سيادية لإعادة توزيع مراكز الثقل، وتثبيت موازين الردع والسيطرة في فضاء الشرق الأوسط.
ومن هذا المنطلق، تُستدعى جزيرتا تيران وصنافير – اللتان تمّ نقل السيادة عليهما من مصر إلى السعودية بموجب اتفاقية أُحيطت بكثير من الجدل – كموقعٍ محوري في الخارطة الجيوعسكرية الجديدة، فقد أصبحتا اليوم مرشحتين، بجدية متقدمة وبطلب سعودي مباشر، لاحتضان قواعد عسكرية أمريكية دائمة، في سياق استراتيجية أمنية متعددة المستويات تهدف إلى تأمين الاستثمارات الهائلة التي تُنفّذ حاليًا في منطقة "نيوم"، الواقعة على تخوم البحر الأحمر، والتي تُعد من أبرز معالم الرؤية السعودية 2030، وفقًا لما ذكره النظامي لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وبيّن أن الوظيفة الأمنية لهذه القواعد لا تقتصر على الحماية المباشرة لمشاريع "نيوم" فحسب، فهي تمتد لتشمل تأمين سواحل البحر الأحمر الممتدة، وضمان حرية الملاحة في الممرات الحيوية مثل قناة السويس، فضلًا عن القناة الإسرائيلية المقترحة (قناة بن غوريون)، التي تُخطّط تل أبيب لإقامتها كممر موازي، في حال تزايد التهديدات أو الاختناقات الاستراتيجية في القناة المصرية.
ولفت النظامي الانتباه إلى أن هذه القواعد العسكرية المقترحة ستضطلع بأدوار أكثر تعقيدًا وامتدادًا، إذ ستشكل جزءًا من شبكة أمنية إقليمية متداخلة، مكرسة لحماية المصالح الأمريكية في الحقول البحرية للغاز الطبيعي الواقعة قبالة سواحل غزة، وهي الحقول التي باشرت شركات طاقة أمريكية بإعداد دراسات تنفيذية متقدمة بشأنها، تمهيدًا لتفعيلها فور الوصول إلى تسوية شاملة ونهائية لملف غزة، وهي تسوية تُدار حاليًا في الكواليس عبر مفاوضات سرّية، تحظى بدعمٍ عربي واسع غير معلن، وتهدف إلى تصفية الركائز المتبقية في المشهد الفلسطيني المقاوم، وإعادة توظيف غزة ضمن المنظومة الاقتصادية والأمنية الإسرائيلية-الأمريكية.
ونوّه إلى أن المشروع العسكري والأمني الجاري بلورته في تيران وصنافير يُمثل في جوهره أحد أضلاع "الهندسة الأمنية الجديدة" في الإقليم، والمصممة لضمان انسياب طريق الحرير الهندي، والذي جرى تمكينه مؤخرًا من خلال اتفاقية ثنائية وُقعت بين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والحكومة الهندية، وتنص على دعم أمريكي مباشر للهند في مسعاها لبسط نفوذها التجاري عبر الممرات البرية والبحرية، بالتنسيق مع إسرائيل وشركاء واشنطن في المنطقة.
واستطرد النظامي قائلًا إن واشنطن وتل أبيب تمضيان قدمًا في إعادة تركيب "خرائط السيادة" في المنطقة، من خلال استراتيجية مزدوجة الأبعاد؛ تجمع من جهة بين الإجراءات العسكرية الوقائية، ومن جهة أخرى بين مبادرات دبلوماسية ناعمة عبر وساطات ومفاوضات تدار غالبًا في الظل، بهدف الالتفاف على الممانعة الداخلية، وتهيئة المسرح الإقليمي لقبول الترتيبات القادمة بوصفها أمرًا واقعًا لا مفر منه.
وأردف أن ملفات النزاع الأكثر تعقيدًا – وتحديدًا الملفين الإيراني والحوثي – لا تزال تخضع لنهج "الضغط المركّب"، إذ تتقاطع فيه أدوات الحسم العسكري مع مسارات التفاوض غير المعلن، في محاولة لإحداث اختراق يكرّس منظومة التهدئة طويلة الأمد، ويؤمّن الواجهة الجنوبية لطريق الحرير الآخذ في التشكل.
وتابع النظامي أن غالبية الملفات العربية قد تمّت معالجتها – إن لم يكن حسمها بالكامل – عبر توافقات غير معلنة، ورؤى ما بعدية يجري الآن تثبيتها على الأرض بالتدريج، دون استعجال في إعلانها رسميًا، انتظارًا لاستكمال تطويع بقية العناصر المتبقية في المعادلة الإقليمية، بما في ذلك إخراج إيران من مربع التأثير المهدِّد، وتفكيك الأذرع المسلحة غير المنضبطة إقليميًا.
ونبّه من أننا أمام عملية جيوبوليتيكية مركّبة، تتجاوز الاقتصاد إلى الأمن، وتتعدى الجغرافيا إلى السيادة، وتتغلغل في صلب المعادلة العربية الهشة، لتعيد إنتاج التبعية، ولكن بأدوات أكثر نعومة، وبدعم إقليمي ظاهره الاستثمار والتنمية، وباطنه إعادة هيكلة المنطقة وفق معايير القوة الناعمة والمتكاملة للقوة الصلبة.

