إيران على حافة صفقة بلا اسم.. من يكتب النص ومن يُملِي الشروط؟
قال مدير برنامج الدراسات الإيرانية في مركز الدراسات الإقليمية الأستاذ الدكتور نبيل العتوم، إن التصريحات الإيرانية المتباينة والمتضادة في جوهرها تُجسد حالة السيولة السياسية والتذبذب الاستراتيجي التي تكتنف مسار المفاوضات النووية الراهنة، وهو ما يعكس بوضوح تعقيد الحسابات الإقليمية والدولية المتشابكة.
وأوضح العتوم في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن التناقض الظاهر بين الخطاب الإعلامي والسياسي الإيراني يعكس، في أحد أبعاده الجوهرية، تمسّك طهران بمنهجية ما يمكن توصيفه بـ"المرونة المشروطة"، وهي مقاربة تفاوضية تتأسس على إبداء الانفتاح المدروس على احتمالات التسوية، دون تقديم أي تنازل مجاني قد يُفسّر، سواء داخليًا أو إقليميًا، كعلامة على التراجع أو الانكسار أمام الضغوط الغربية.
وبيّن العتوم أن وصف المزاعم الغربية بأنها "أكاذيب مكررة"، كما ورد في التصريحات الرسمية، يحمل دلالتين متزامنتين؛ الأولى موجهة بصورة مباشرة إلى إسرائيل، التي دأبت على اتهام إيران بالسعي الحثيث نحو امتلاك قدرات نووية عسكرية، بينما الدلالة الثانية تستهدف إدارة ترامب السابقة، التي وظّفت ما اعتبرته طهران تقارير استخبارية ملفّقة في سياق عملية الضغط القصوى، مضيفًا أنه لا يمكن إغفال ما تمثله هذه اللغة الاتهامية في جوهرها من محاولة لطمأنة الداخل الإيراني، وخصوصًا التيارات الأيديولوجية المتشددة، فالنظام لن ينزلق إلى تقديم تنازلات استراتيجية مجانية لواشنطن، مهما بلغت حدة الضغوط.
وذكر أن هناك تصاعد في النبرة التفاؤلية التي سوّقت لما يسمى "اتفاقًا جديدًا"، من المفترض أن يكون مغايرًا للاتفاق النووي الموقع في يوليو/تموز 2015، سواء من حيث الاسم أو المضمون أو طبيعة الالتزامات المتبادلة، مضيفًا أن التمحيص في المضمون السياسي والإعلامي لذلك الطرح، يدل على أن ملامح هذا الاتفاق البديل قد صيغت وفق سردية متعددة الأبعاد، تتضمن إعادة إنتاج للاتفاق بصيغة أكثر مرونة وتكيّفًا مع المتغيرات الإقليمية والدولية، إذ جرى الترويج لفكرة إطلاق تسمية جديدة على الاتفاق، كـ"ترتيب أمني - اقتصادي مرحلي" أو "إطار مؤقت غير ملزم"، وهي صياغة رمزية تعكس إدراكًا إيرانيًا عميقًا لحساسية الداخل السياسي في طهران، وكذلك للتعقيدات القانونية داخل الكونغرس الأمريكي، الذي يُعدّ عقبة كأداء أمام أي مسعى لتثبيت اتفاق طويل الأمد.
واستطرد العتوم قائلًا إن الخطاب الإيراني بدأ يلمّح إلى صيغة تفاوضية جديدة تقوم على "التجميد دون تفكيك"، وأن أي القبول بتجميد مستوى التخصيب عند سقف 60% دون المساس بالبنية التحتية النووية، يُعدّ تراجعًا تكتيكيًا دون تقديم التزامات تفكيكية بعيدة المدى، إلا أن هذا التوجه يتناقض بوضوح مع التصريحات الأمريكية الرسمية، التي تُصرّ على رفض استمرار أي عملية تخصيب داخل الأراضي الإيرانية، وتطالب بنقل المواد المخصبة إلى دولة ثالثة، بالإضافة إلى تفكيك أجهزة الطرد المركزي الحديثة من طرازات IR-6 وIR-9، وهو ما يتعارض مع البنية الفنية التي رسّخها اتفاق 2015.
في المقابل، تروّج أطراف أمريكية - في ظل صمت رسمي - لإخضاع هذه المواد النووية لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وربما نقلها إلى دول مثل روسيا أو الصين، بل وحتى إلى سلطنة عُمان، رغم محدودية إمكاناتها الفنية والتقنية لتخزين هذه المواد الحساسة، مما يثير تساؤلات حول مصداقية هذا الطرح وواقعيته، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وذكر العتوم أن طهران تدفع باتجاه صيغة تفاوضية تسعى إلى رفع جزئي ومؤقت للعقوبات، الأمر الذي يُمكنها من إعادة تنشيط بعض قنواتها المالية والتجارية، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة اختبار لمدى استعداد واشنطن للعودة إلى مقاربة الصفقات، إذ بدت مؤشرات هذا التحول جلية عندما قدّمت طهران عروضًا للاستثمار الأمريكي داخل أراضيها بقيمة تريليون دولار، مترافقة مع انفتاح نسبي على صيغة "الشراكة النووية - الاقتصادية"، وهي صيغة هجينة تسمح نظريًا بمشاركة أمريكية جزئية في عملية تخصيب اليورانيوم، ضمن رقابة صارمة، وهو ما ينسجم مع طبيعة شخصية الرئيس السابق دونالد ترامب كرجل أعمال يعلي من شأن الاتفاقات ذات الطابع التجاري.
وأردف أن هذا التحول في طبيعة الخطاب التفاوضي يعكس نضوجًا في الرؤية الإيرانية تجاه فكرة "دمج المسارات"، أي الجمع بين مسار البرنامج النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي لإيران في أزمات المنطقة، ومن هنا جاءت مقولة "التجميد مقابل التجميد"، كمقاربة تدريجية تسعى إلى كبح السلوك العدائي للطرفين، مع إخضاع الأداء المتبادل لآليات تقييم دورية وشبه فنية.
وإذا ما قُيّض لهذا الاتفاق أن يرى النور، فمن المؤكد أن ذلك سيشكّل لحظة فاصلة في تاريخ العلاقات الإيرانية - الأوروبية، إذ سيمهد الطريق لانفتاح اقتصادي وسياسي متبادل، وخصوصًا أن إدارة ترامب حاولت في السابق تحييد الدور الأوروبي وإقصائه من المعادلة التفاوضية، وهو ما تنبهت له العواصم الأوروبية التي سارعت إلى إعادة توجيه مسار المفاوضات نحو روما، وهذا التوجه الأوروبي ينبع من رغبة في الحيلولة دون استفراد الولايات المتحدة بمكاسب الاتفاق، وإعادة موضعة الاتحاد الأوروبي كفاعل محوري في هندسة النظام الإقليمي الجديد لما بعد العقوبات، وفقًا لما ذكره.
وأشار العتوم إلى أن المشهد التفاوضي الحالي بين إيران والغرب لم يعد يُقرأ في سياق نووي صرف، فهو بات يتطلب مقاربة مركّبة تراعي توازنات الداخل الإيراني، وانقسامات المؤسسة الأمريكية، وتقاطعات المصالح الإقليمية، في ظل عالم يعيد صياغة أولوياته وفق اعتبارات الطاقة والاستثمار والتفوق التكنولوجي.

