النقرش يكتب: الولاء وحب الوطن عقد شرف.. لا وسيلة للارتزاق
د. إبراهيم النقرش
في ظل ما نشهده من تنامي أصوات المديح الزائف والتملّق الرخيص لبعض الشخصيات التي تحاول أن تحتكر الوطنية وتختزل الولاء للملك والوطن في عبارات جوفاء، علينا أن نقف وقفة ضمير ومراجعة حقيقية لمفهوم الولاء والانتماء في وطن بحجم الأردن وتاريخه وقيادته الهاشمية.
الولاء لا يُقاس بالصراخ... ومحبة الملك لا تحتاج إلى نفاق وتملّق ودعوية مبتدعة تُخرجها من عفويتها وصدقها، وليس كل من صاح "عاش الملك" مخلصًا... الولاء يُقاس بالصدق لا بالضجيج.
فلم يعد مقبولًا – بل ولم يكن يومًا مقبولًا – أن يُستخدم مفهوم الولاء والانتماء للوطن والملك كوسيلة للابتزاز السياسي أو كجسر عبور نحو المناصب. نسمع اليوم عبارات سوقية ممجوجة مثل: "من لا يحب الملك لا يحب الله" أو "الله يلعن أبو اللي ما بحب الملك"، وغيرها من الأقوال المخجل لفظها، وهي أقوال لا تصدر عن عقل راشد، ولا تمثل فكرًا سياسيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا، وليست تعبيرًا عن انتماء، بل خروج عن الأدب السياسي والديني والأخلاقي.
لا أحد يحتكر الحب للوطن أو للملك. نحن الشعب نحب الملك بوعي، وننتمي للأردن بعقيدة فكرية راسخة، لا بجمل مسجوعة تُقال على منصات المصالح. هؤلاء لا يخدمون الدولة، بل يُسيئون إليها دون أن يشعروا، ويختزلون الانتماء في التهليل والتطبيل، وكأن الوطن لا يعرف إلا صوتًا واحدًا، ونغمة واحدة. الهاشميون في قلب الشعب... لا يحتاجون تملقًا ولا تزلفًا.
منذ عقود، أثبت الهاشميون أنهم ليسوا بحاجة إلى من "يُرضع الشعب محبتهم"، فمحبتهم مغروسة في قلوب الناس بفعلهم وتاريخهم. الملك الراحل الحسين بن طلال – رحمه الله – لم يكن ملكًا فحسب، بل كان رمزًا للإنسانية والاعتدال، وقد ودّعه الأردنيون بدموع صادقة في لحظات لم تُنسَ. لا أحد أجبرهم على البكاء، ولا على المحبة، بل كانت العاطفة نابعة من الوجدان.
واليوم، يسير الملك عبد الله الثاني على ذات النهج. احترامه بين الناس لم يصنعه إعلام ولا مهرجانات مديح، بل صنعته مواقفه وإنسانيته وقربه من شعبه. هو لا يحتاج إلى من يصرخ ليقنعنا بحبه، ولا يرضى بهذا الخطاب المبتذل الذي يُستخدم على ألسنة البعض ممن يلهثون وراء المناصب.
وقد عبّر ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله عن فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الشعب والقيادة، ورؤية التعددية (أن لا خوف من الاختلاف) حين قال إن "التعددية مطلوبة وصحية"، وأن "الاختلاف في الرأي لا يعني الخيانة أو الإقصاء" وأن حرية الرأي ليست ضد الدولة بل صمام أمان لها.
هذا هو المفهوم المتقدم للدولة الحديثة: أن يكون هناك مساحة للاختلاف، للنقد، للنقاش، دون تخوين أو تصنيف.
فسموه لا يُريد دولة الصوت الواحد، بل يُريد دولة تتسع لآراء الجميع، دولة يشعر فيها المواطن بأنه شريك لا تابع، مخلص لا متملّق.
التملّق ليس تعبيرًا عن حب وانتماء، بل هو شكل من أشكال العبودية السياسية، نتاجه بُعد النظام عن الناس بدل أن يُقرّبه.
وفيه جبر الناس محبته قسرًا وهذا ليس من طبع الهاشميين ولم نعهده. فالمحبة التي تُفرض لا تُثمر، والولاء الذي يُشترى لا يصمد.
من يعتقد أن محبة الملك تمر عبر حفلات المديح والسجود الرمزي هو لا يعرف شيئًا عن المعنى العميق للقيادة الهاشمية، القائمة على الخلق والدين والتواضع والعمل والاحترام، لا على الفرض والتخويف.
نحن الشعب العفوي البسيط الطيب نحب الملك، ونحترم النظام، لكن من منطلق كرامتنا، لا من باب الذل. نحب الوطن، لا لأن أحدًا أجبرنا على حبه، بل لأنه جزء منا.
حب الملك الحقيقي هو أن نحترمه بعقل، وأن نصدقه وننصحه، ولا يُمنع الآخرين من قول الحقيقة، (فالكرامة أساس الولاء).
الولاء الحقيقي يبدأ من احترام النفس، واحترام الشعب، والإيمان أن الوطن والملك ليس شعارًا بل عقدًا أخلاقيًا بين الدولة والمواطن.
نظامنا أقرب إلى الشعب من أن يحتاج لتلك الأقنعة. والملك، بكل ما عرفناه عنه، لا يرضى أن تُمارس باسمه هذه السلوكيات، ولا أن تتحول المناداة بمحبته إلى سلعة في يد المنافقين والمنتفعين.
الملك عبد الله، بوعيه السياسي وحكمته، يُدرك من الصادق ومن المتسلق، وأن التملّق لا يبني وطنًا، وأن من يهتف اليوم قد يخذل غدًا. ومن يعرف تاريخ هذا الملك، يعلم أنه يُقدّر الصدق، ويقرأ وجوه الناس قبل كلماتهم.
أما المؤسسات الأمنية، فهي أدرى الناس بنوعيات البشر ومسالكهم، وتعرف من يردح نفاقًا، ومن يتكلم حبًا.
ولا يمكن أن نختم دون أن نذكر أن من أبرز تجليات الموقف الهاشمي الصادق هو موقفهم الثابت تجاه فلسطين.
لقد كان الملك الحسين سندًا حقيقيًا للقضية الفلسطينية، وظل مدافعًا عنها حتى آخر لحظة.
أما الملك عبد الله، فقد حمل راية القدس، وظل صوته عاليًا في كل المحافل الدولية، مدافعًا عن الحق الفلسطيني رغم كل الضغوط، فكانت فلسطين في قلب الهاشميين دائمًا.
هذه مواقف لا تحتاج لمن "يزمّر ويطبّل" لها، بل تحتاج من يواصل السير على درب الكرامة والوعي.
نعم، نحب الملك، ونفخر بالوطن بوعي وكرامة دون طمعٍ أو مصلحة، لكننا نرفض أن يحتكر أحد هذا الحب، أو أن يُقاس الولاء بعدد كلمات المديح.
نحب الملك لأننا نؤمن برسالته، ونحترمه لأننا نحترم أنفسنا. ونرفض أن تُستخدم هذه المحبة لفرض الخوف أو توزيع المناصب، ولا نقبل أن يتحول الوطن إلى مسرح للمنافقين والمتنفّعين.
محبة الملك نابعة من عمق الضمير، لا من فوضى الكلمات.
والولاء الحقيقي هو ما يحفظ كرامة الوطن، لا ما يبيعها على أبواب الجاه طمعًا بمنافع شخصية.
الوطن لا يحتاج إلى مهرّجين، بل إلى مواطنين أوفياء، يبنون لا يصفقون فقط، يصدقون لا ينافقون، ويحبون بوعي، لا بغريزة الخوف والردح من أجل المناصب.

