القصاص يكتب: الفراغ السياسي واستعادة الثقة .. نحو مشروع وطني شامل
د. مالك القصاص
الفراغ السياسي هو غياب أو ضعف المؤسسات السياسية الفاعلة، أو غياب الرؤى والسياسات الواضحة التي تلبي طموحات المواطنين. وهذا يحدث عندما تتراجع الأحزاب عن دورها الطبيعي في التعبير عن الشعب وطموحاته، أو يفقد البرلمان أو المجالس المنتخبة فعاليتها، أو يشعر المواطنون بأن أصواتهم لا تؤثر في القرار السياسي، أو تنتشر الشعبوية أو الفوضى السياسية بدون قيادة موثوقة.
في ذات السياق، تكمن خطورة الفراغ السياسي في انعدام الثقة في مؤسسات الدولة مما يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويؤدي إلى تصاعد التطرف والشعبوية، بالإضافة إلى انتشار الإشاعات والمعلومات الكاذبة، خصوصا في غياب رواية رسمية مقنعة، مما يعمّق أزمة الثقة.
وبالإضافة الى ذلك، يؤدي الفراغ السياسي إلى هجرة العقول وفقدان الكفاءات، حيث يفقد الشباب الأمل في الإصلاح ويبحثون عن فرص خارج وطنهم.
على الصعيد الأوروبي، تبنت أوروبا العديد من السياسات والمبادرات لمكافحة الفراغ السياسي والإعلامي، واستعادة الثقة بين المواطنين والمؤسسات، ولتعزيز بيئة إعلامية موثوقة ومستقلة، خاصة في ظل التحديات الرقمية وانتشار المعلومات المضللة. فعلى سبيل المثال، قامت أوروبا بعمل إصلاحات في البرلمان الأوروبي يهدف الى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
كما وقامت أوروبا بعمل المبادرة الأوروبية للمواطنين (ECI) بهدف تعزيز المشاركة الديموقراطية المباشرة من خلال تمكين مواطني الاتحاد الأوروبي من المشاركة مباشرة في تطوير سياسات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة للعديد من المبادرات لمكافحة المعلومات المضللة مثل مدونة قواعد الممارسة لعام 2022 بشأن المعلومات المضللة، وقانون الخدمات الرقمية (DSA) وغيرها.
على الصعيد الإيطالي، تبنت إيطاليا في السنوات الأخيرة سلسلة من المبادرات والإصلاحات بهدف ملء الفراغ السياسي واستعادة ثقة المواطنين. فعلى سبيل المثال، قامت إيطاليا بإصلاحات دستورية لتعزيز الاستقرار السياسي، وإصلاح النظام القضائي، بالإضافة الى دعم المشاركة السياسية والتربية المدنية، وتعزيز الشفافية والمشاركة السياسية، خاصة بين الشباب، بهدف تمكينهم من المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والتصدي لظاهرة العزوف السياسي.
أخيرا وكعادتي لابد ان اتناول الموضوع من زاويتي الأردنية حيث يتطرق الى ذهني التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في الأردن، واسأل نفسي: هل يمكن عمل مشروع وطني شامل وحقيقي، تكون فيه الرؤى والاستراتيجيات والسياسات واضحة في الأردن، مما يساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، مع الاخذ بعين الاعتبار الاستفادة من خبرات البلدان الاخرى؟ يمر الأردن حالياً بمرحلة حساسة ومفصلية نتيجة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المستوى المحلي، بالإضافة إلى التأثيرات الإقليمية والصراعات المحيطة به. ولمواجهة هذه التحديات المتزايدة، هناك حاجة ماسة إلى مشروع وطني شامل وحقيقي، تكون فيه الرؤى والاستراتيجيات والسياسات واضحة. لابد من أن يبدأ هذا المشروع بإعادة ترتيب البيت الداخلي ومعالجة الفراغ السياسي، وكذلك ليكون بداية لبناء الثقة المطلوبة بين الشعب وقواه المجتمعية ومؤسسات الدولة. كما ولابد من اعادة النظر في الاحزاب لبناء الحياة الحزبية والنيابية الحقيقية، وإعادة الاعتبار للخطاب السياسي.
كما ولابد من استعادة ماكينة إنتاج السياسيين ورجال الدولة. وكذلك لابد من الاستمرار في التحديث السياسي والإصلاح الإداري والاقتصادي لتحقق آمال وطموحات الشعب الأردني. من خلال تبني هذه السياسات، يمكن للأردن ان يكون قادرا على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية الحالية والمستقبلية، وخصوصا تلك التحديات السياسية القادمة من الإقليم. فهل نحن على الطريق الصحيح؟

