العثامنة يكتب: أما بعد

{title}
أخبار الأردن -

مالك العثامنة

هناك منظومة علاقات دولية تتفكك، وتفككها كارثي على مستوى القيم الإنسانية التي استقرت على ثوابت تحترم الكرامة الإنسانية. هذه القيم اليوم تتعرض لتعرية كاملة من أي قيمة إنسانية حقيقية، وبصمت دولي مخيف ومرعب.

هذا يجعلني – ويجعل غيري أيضًا– على مفترق طرق واضح: إما أن أكفر بالقيم الإنسانية مستسلمًا للغضب واليأس أمام كل ما يحدث، أو أن أبقى متماسكًا، وهي عملية شاقة وصعبة، متمسكًا بما وصلت إليه من قناعات تتعلق بالإنسان وكرامته وحقوقه، ومفاهيم الدولة والقانون. قناعات بُنيت عبر تحولات كثيرة في حياتي دفعت ثمنها نصف عمري الذي عشته.
عصبة الأمم التي تأسست على مبادئ ويلسون، ما زلت أؤمن بالصالح منها. كذلك فإن سقوط عصبة الأمم كان ضروريًا لإصلاح جذري أنتج هيئة الأمم المتحدة الحالية، والتي أصبح من الحتمي اليوم إصلاحها أو إعادة صياغتها بشكل يناسب العالم الجديد. عالم تغيّر فعلاً مع ثورة تكنولوجيا المعلومات الهائلة التي تشكّل قفزة ضخمة للبشرية كلها، مما يستوجب إعادة تأهيل وتطوير كل علاقات البشر والدول لتتناسب مع تلك القفزة.
لكن ما نراه اليوم من عجز في المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، يعكس بوضوح هذا التفكك في المنظومة الدولية ككل. ومن أوضح الأمثلة على ذلك العجز الصارخ ما يحدث في فلسطين وغزة تحديدًا، وتخاذل المحكمة الجنائية الدولية أمام مجرمي الحرب.
رغم كل الغضب والحنق على ما يحدث، لا أستطيع التنازل عن قناعات راسخة في داخلي حول قيمة الإنسان وكرامته، مهما انحدر مستوى المجتمع الدولي وقياداته وأنظمته. أرفض تمامًا أن أسقط في دوامة الانهيار العالمي الراهن، وأؤمن بعمق أن ما بعد هذا الخراب الواسع سيكون هناك أمل بأن تستعيد الإنسانية ذاتها، بعد إدراك حجم الدمار الذي أحدثته.
التفكير بعقل بارد لا يعني الوقوف ببرود أمام كل هذه الفظاعات. هناك جرائم حقيقية تُرتكب يوميًا أمام أعين العالم، ومنها ما يحدث في غزة من قتل وإبادة، وانهيار منظومة العدالة الدولية أمام مجرم حرب مثل نتنياهو. لكن هذا الانهيار لا يبرر أبدًا أن نستسلم لمنطق الإجرام، وإلا فإن الفوضى ستغمر كوكبنا دون رحمة.
التفكير بعقل بارد، بالنسبة لي، يعني أن أبقى في حالة من التماسك الداخلي الصعب، والتمسك بالقيم الإنسانية التي وصلت إليها البشرية، والعمل على البناء عليها مهما تمادى الشر واتسع الخراب.
ما أريد قوله باختصار: ما يحدث من حولنا، وفينا ومعنا كبشر، سندفع ثمنه جميعًا دون استثناء. هذا القتل البشع الذي نشهده له استحقاقات مؤجلة، وثمنه سيكون باهظًا على الجميع بلا استثناء.
علينا أن نستعد تمامًا لما بعد هذه الحروب والفظائع، لأن القنابل البشرية الموقوتة للانتقام ستكون في كل مكان على هذا الكوكب. إعادة شيء من الإيمان بالإنسانية، ولو بالحد الأدنى، هو أقصى ما يمكن تقديمه وزرع بذوره من الآن.
قيل قديمًا إن "الشر يزدهر حين يصمت الطيبون"، وأرى هذه العبارة رومانسية لا أكثر، ما يدفعني للتعديل عليها بالقول:
يزدهر الشر حين يصمت الإنسان الكامن فينا.


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير