غزة... اقرأوا بعناية حتى تفهموا مصيرها

قال أستاذ العلوم السياسية الدكتور الحارث الحلالمة إن المجازر المرتكبة في قطاع غزة ليست حوادث معزولة أو إفرازات لحالة حرب عابرة، فهي تحوّلت، بمرور الوقت وتكرار المشهد، إلى نمط دموي ممنهج، يُدار وفق رؤية استراتيجية مركّبة تتقاطع فيها الحسابات العسكرية مع المقاربات السياسية، وتُغلف بغطاء دولي صامت، إن لم يكن متواطئًا صريحًا.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أنه يتبدّى بوضوح الدور الأمريكي، لا وسيطًا مزعومًا أو شريكًا في السلام، وإنما فاعلًا أصيلًا يمنح الاحتلال ضوءًا أخضر للانفلات من كل قيد، ويُجيز، عبر صمته أو دعمه الصريح، لآلة القتل الإسرائيلية أن تواصل حصد أرواح المدنيين، تحت ذريعة "الضغط العسكري" لتحقيق مكاسب تفاوضية مزعومة.
وبيّن الحلالمة أنه ورغم مرور ما يربو على خمسة عشر شهرًا من حرب عدوانية لم تتوقف لحظة، إلا أن إسرائيل، ورغم كل ما بذلته من دم وبارود، لم تسترجع أسيرًا حيًا واحدًا، ما يكشف خواء هذه الاستراتيجية وضيق أفقها الميداني والسياسي.
وذكر أن ن ما يحدث اليوم لا يمكن قراءته بمعزل عن توافق ضمني ـ وربما مُعلن في كواليس القرار ـ بين واشنطن وتل أبيب، وهو توافق يستبطن قناعة مشتركة بضرورة تحسين شروط التفاوض عبر تصعيد الضغط على المدنيين، وفرض معادلة الخضوع على المقاومة، فإسرائيل، وبحساباتها الانتهازية، تراهن على أن سيل الدم كفيل بإرغام حماس على قبول شروطها، ومنها إطلاق سراح أحد عشر أسيرًا، وليس خمسة كما وافقت الحركة سابقًا، فضلًا عن أوهامها بتجريد المقاومة من سلاحها، وإخضاعها لإملاءات المشروع الصهيو-أمريكي.
ونوّه الحلالملة إلى أن المعطيات الميدانية، كما تشفّ عنها جولات التفاوض المرتقبة، تكشف بجلاء أن كل هذا التصعيد الوحشي لم ينجح في ترجيح كفة الاحتلال، ولم يُفضِ إلى اختراق استراتيجي يتيح له فرض شروطه، فرغم ما ضخّته الولايات المتحدة من أسلحة متطورة ودعم استخباراتي واسع النطاق، إلا أن موازين القوة لم تنكسر بعد، وحافظت المقاومة على تماسكها، وأربكت الحسابات الإسرائيلية.
ولفت الانتباه إلى أن الأخطر في هذه المعادلة ليس فقط ما يُرتكب من مجازر، بل ما يُراد منها سياسيًا، فإسرائيل، وهي تتفنن في تدمير البنية التحتية لغزة، توازي ذلك بحرب ناعمة تستهدف البنية النفسية والاجتماعية للناس، عبر محاولة صناعة وعي بديل لدى سكان القطاع، يصوّر حماس سببًا مباشرًا للمعاناة، ويوحي بأن استمرار المقاومة يعني استمرار القتل والدمار، وفي هذا السياق، تُستثمر بعض الاحتجاجات الشعبية المحدودة، التي خرجت في ظروف إنسانية خانقة، كمادة دعائية في مشروع نزع الشرعية عن حماس وتفريغ غزة من بعدها المقاوم.
وأشار الحلالمة إلى أن الهدف الأبعد، والذي لا تخطئه عين متتبّع، هو السعي الدؤوب لتنفيذ رؤية تهجير ناعم، تتنكر لكل ما هو أخلاقي وإنساني، إذ تعمل إسرائيل، بدعم أمريكي غير محدود، على تحويل غزة إلى مكان غير صالح للسكن، عبر تعميم واقع معيشي بالغ القسوة، لا يتيح الحد الأدنى من مقومات الحياة، مضيفًا أن هذه المقاربة تُبنى على مبدأ خلق "بيئة طاردة"، تدفع الإنسان الفلسطيني نحو خيار الهجرة القسرية، أو ما يُسوّق كـ"خيار طوعي"، في استنساخ فجّ لمخططات التهجير الكبرى التي عرفها التاريخ.
وإنه لمن المُفجع أن يُدار هذا المخطط الشيطاني تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، الذي يبدو ـ في أفضل حالاته ـ عاجزًا، وفي أسوئها متواطئًا، مع محاولات إعادة إنتاج النكبة بأدوات أكثر حداثة وأقل كلفة سياسية، فالدول الكبرى، التي تدّعي حماية القيم الإنسانية، تصمت أمام هذا الجرح المفتوح، تاركة الفلسطيني يواجه وحده آلة الإبادة الممنهجة، دون أن يجد في المجتمع الدولي سوى بيانات خجولة، لا تتجاوز مستوى الإنشاء الدبلوماسي الفارغ، وفقًا لما صرّح لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
واستطرد قائلًا إن ما يحدث في غزة اليوم، هو لحظة كاشفة، تعرّي زيف الشعارات الدولية، وتعيد طرح السؤال الجوهري مرتبط بما إذا لا يزال هناك مكان للعدالة في هذا العالم، وهل من قيمة للإنسان الفلسطيني خارج منطق الصفقات والمصالح الجيوسياسية؟.
وأكد الحلالمة أن غزة، بمقاومتها العارية، وصمودها المعجون بالدم والتراب، لا تزال تحفظ المعنى الأخير للكرامة في زمن الانهيارات، فهي باتت تختصر معركة الإنسان من أجل البقاء، ومعركة الحقيقة ضد التضليل، ومعركة العدالة ضد منطق القوة.