وليد عبد الحي يكتب: مستقبل الحركات الدينية بين الاتجاه الاعظم والاتجاه الفرعي- الحالة العربية-

{title}
أخبار الأردن -

 

وليد عبد الحي

يميل اغلب علماء الانثروبولوجيا الى اعتبار الظاهرة الدينية ملمحا ثقافيا رافق الانسان منذ نشوئه،سواء نظرت لهذا النشوء بمنظور ميتافيزيقي او بمنظور دارويني ،وتعددت الاديان وفسائلها المذهبية عبر التاريخ، ومع ان 12 من هذه الاديان يدين بها حاليا حوالي 75% من سكان المعمورة الا ان فسائلها المذهبية وتفرعات فسائلها الطائفية تصل الى حوالي 4200 فرعا، يقابلهم ما بين 15-17% من سكان العالم من اللاأدريين او الملحدين (Agnostics-gnostic). ذلك يعني انها ظاهرة انسانية تاريخية ،والعرب جزء من هذه الظاهرة.

وعند رصد مؤشرات حركية هذه الظاهرة التي تعود لاكثر من خمسة آلاف عام ، نجد انها عرفت صعودا في فترات معينة وهبوطا في فترات أخرى، لكن قياس مؤشرات التعبير عنها اجتماعيا وسياسيا وفكريا يشير الى ان مؤشرات التراجع كاتجاه اعظم تعلو مؤشرات التقدم كاتجاه فرعي ، واعتقد ان أحد اخطاء مراقبة هذه الظاهرة هو خطأ " سجن اللحظة"، فمن الضروري لظاهرة بهذا التاريخ الطويل جدا ،ان لا يتم الحكم على الظاهرة استنادا للحظة القياس الآني (الاتجاه الفرعي-Sub-trend ) بل للاتجاه الاعظم((Mega-trend الذي يرصد حركية الظاهرة عبر مراحلها التاريخية ، ثم رسم المنحنى لكل فترة، ثم مراقبة ذروة(Peak) المنحنى في كل مرحلة ومقارنته بما قبله وما بعده من منحنيات.

ان مساحة تفسير الظواهر البشرية والكونية، وتحديد اسس مشروعية الحروب، ثم تحديد الهوية الدينية للدولة او النظام السياسي او الحاكم تشير الى تراجع واضح لغير صالح الظاهرة الدينية (كاتجاه اعظم)، وتشكل العولمة (بعيدا عن المنظور المعياري بخاصة اليساري لها) اكبر تحديات الظاهرة الدينية ، فالترابط الطوعي او القسري بين المجتمعات وبشكل متسارع جدا يقود –طبقا للمنظور الدوركهايمي- الى اتساع المصالح المشتركة وتشابك العلاقات مما يقود الى تهميش المصالح المتعارضة(من بينها الخلافات الدينية)، لكن ذلك سيفرز ردات فعل آنية كما يجري حاليا ، فقد تزايد المحافظون الجدد في امريكا ووتزايدت النزعة الارثذوكسية في روسيا وبعض اوروبا الشرقية وتنامى اليمين الاوروبي(العودة للاصول) وتنامت النزعة الكونفوشية في الصين ووصول الهندوسية للحكم في الهند وتزايد نسبة الانجليكان في امريكا اللاتينية وتزايد وزن المتدينين اليهود في السلطة والمجتمع الاسرائيلي وتنامى الاسلام السياسي..الخ. ولعل ذلك هو الذي جعل الاتجاه الفرعي لدى البعض يظنه اتجاها أعظم بفصل هذا المنحنى عن ذروة المنحنيات السابقة واللاحقة وعن السياق التاريخي فعجز عن تأسيس رؤية مستقبلية.

فإذا انتقلنا الى العالم العربي ضمن الاطار السابق ، نجد ضرورة التنبيه لما يلي:

1- لا يجوز النظر لتنامي الحركات الدينية العربية- السنية او الشيعية او السلفية او الصوفية- وكأنها مؤامرة خارجية، او انها بتحريض من هنا وهناك، فهو تنامي متناغم مع الظاهرة العالمية الحالية كما أشرنا، ولكن خطأ حركاتنا الدينية هي "الوقوع في وهم الابدية" بالوهم بان نموهم ليس الا قانونا حديديا واطمأنوا لهذا الوهم ،لان الاتجاه الاعظم – الذي يشي بالتراجع - يطالهم كما يطال غيرهم في حركيته المتواصلة.

2- ان العداء المستحكم –بخاصة سياسيا- بين الانظمة العربية والحركات الدينية بخاصة الاخوان المسلمين وبعض الحركات الشيعية هو نتيجة لسياسات مرتبكة مارستها الانظمة السياسية العربية ، فالطالب في مدارسنا يتلقى حصة دراسية او اكثر يوميا عن الدين الاسلامي، وتنقل له الفضائيات الرسمية صلوات الجمعة والآذان والاناشيد والابتهالات، وقد سبق لي ان أخذت عينة من مناهج التعليم في 12 دولة عربية ، فتبين لي ان الطالب يتلقى في المدرسة(12 سنة دراسية) ما مجموعه ما بين 2600 الى 2800 ساعة تعليمية دينية خلال المرحلة المدرسية ، وتقدم هذه الساعات الدين للطالب بطريقة ايجابية جدا ،وبان هذا الدين هو من جعل للعرب مكانة في العالم، فإذا اقتنع الطالب في شبابه بما درسته مدرسته وطالب بانشاء حزب ديني سجنوه وقيل له" ممنوع انشاء الاحزاب على اسس دينية"، وإذا طالب بالغاء الدين من المدرسة قالت له الانظمة " هذا ملحد يريد نشر الرذيلة وجرنا الى التبعية للغرب او الشرق"....فلا الانظمة شجاعة الى حد فصل الدين عن الدولة كما فعل الغرب ولا هي شجاعة لاقامة دولة دينية خوفا من أن تسحب القوى الدينية الكرسي من تحتها.

ان وجود حركات دينية سياسية او ثقافية في مجتمع عربي عرف اليهودية واالمسيحية والاسلام امر طبيعي ، وبعض الحكم العرب يتولى سلطته متكئا على ارث من هذه الثقافة، فهل يريد الحكام العرب الدين ام لا؟ هم يريدون توظيف ما يفرزه الدين من ترابط آلي للتأسيس لطاعة ولي الامر، لكنهم لا يريدونه حيث ينسج هذا الدين ترابطا عضويا حيث تقاسم المصالح وتشاركها ، وهذه هي مشكلتهم كما هي مشكلة الاخوان ايضا كما ساوضحه.

3- السلوك السياسي للحركات الدينية العربية: اعتقد ان المشكلة الكبرى في أدبيات الحركات الدينية العربية هي في تحديد اسس التحالف مع القوى الأخرى، فقد تحالفت حركة الاخوان المسلمين في ستينات القرن الماضي مع خصومها الحاليين( ضد عبد الناصر وتنامي التيار القومي واليساري العربي) لتصل الآن الى ان اشد المطاردين لها هم من كانوا حلفاءها سابقا، ولعل تغليب الترابط الآلي(الانتماء الديني وممارسة الطقوس) على الترابط العضوي مع الآخرين من القوى العربية والاجنبية شكل المفارقة التي لم تدركها الحركات الدينية، فكوزو اكوموتو(الياباني الذي جاء الى فلسطين عام 1972 وقتل العشرات من اليهود تضامنا عضويا مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يختلف عن التضامن الآلي مع عائض القرني الذي اصبح رجل دين البلاط)، وحزب العدالة والتنمية " الاخواني " ترأس الوزارة المغربية من مارس 2017 الى اكتوبر 2021، وخلال سلطته جرى التوقيع على تطبيع العلاقة بين المغرب واسرائيل في ديسمبر 2020، بينما قطعت اربع دول كاثوليكية في امريكا اللاتينية علاقاتها مع اسرائيل تضامنا يتجاوز كل مفردات التضامن الآلي.

ان قصور الموازنة بين الترابط الآلي والترابط العضوي في منظور الاخوان المسلمين اوقعهم في ملابسات عديدة ، وهو ما يتضح حاليا في موقف قطاع عريض منهم من ايران ومحورها .

4- لم تميز حركة الاخوان بين "استغلالهم " وبين " استقلالهم"، فقد توهم الاخوان ان المدد المالي من قطر ،والسماح لهم بفضائيات في تركيا هو من باب "الاخوة الاسلامية"، بينما غضوا الطرف عن العلاقات العميقة بين هذه الدول وخصمهم التاريخي وهي اسرائيل والقوى الغربية " الصليبية " ، فقطر ركن من اركان دبلوماسية الإنابة(Proxy Diplomacy ) الامريكية ، وتركيا عضو في الحلف المسيحي(الناتو) ولها 12 اتفاقية امنية مع اسرائيل ،وكانت هي الشريك التجاري لاسرائيل حتى اول ايام طوفان الاقصى، ان جرعة البرامج الدينية في قناة الجزيرة لا تتسق ومكتب الموساد في الدوحة ، وحركة الاكراد في سوريا تقابل من الجانب التركي بكيفية مختلفة عن مقابلة التوغل الاسرائيلي الى حواف دمشق.

ان اعلاء مكانة ممارسة الطقوس واعتبارها مرشدا لترابط آلي يعمي النظر عن الترابط العضوي الذي يمكن ان يبني رؤية استراتيجية لا تقوم على المكايدة وممارسة الطقوس.

5- يبدو ان الحركات الدينية لم تتنبه لسياسة "التغلغل الداخلي" فيها من قبل عسس السلطان ، فمثلما عمل تروتسكي على ما أصبح يعرف في الادبيات السياسية بسياسة التغلغل الداخلي (Entryism ) اخترقت الاجهزة الامنية العربية التنظيمات الدينية ، واصبحت قادرة على جرها نحو سياسات المهادنة( طبقا لمخطط مؤسسة راند الامريكية) او تفجيرها بصراعات داخلية، او بتشويه وخنق الجناح الثوري في الحركات الدينية( على غرار ما يوصي الرئيس السيسي في اطروحة تخرجه من الكلية الحربيةالامريكية-Democray in the M.E- الصفحة عشرة. ولعل هذا التغلغل من عسس السلطان في جسد الحركات الدينية له دوره في جرها الى تغليب الترابط الآلي على الترابط العضوي.

6- بالمقابل، فمن حق الاخوان المسلمين ان يحكموا حيث يفوزون بنزاهة، ومن الجريمة سياسيا حرمانهم من حقهم هذا لان ذلك يبقي دوامة العنف الداخلي للابد ، لأن منعهم من تولي السلطة في انتخابات نزيهة كما جرى في مصر وقبلها الجزائر يشكل تغولا واستبدادا يجب فهم دلالاته ، ولكن بالمقابل يجب ان يدرك الاخوان الفرق بين اللعبة لمرة واحدة وبين قبول قواعد اللعبة للابد، فقد لا تجري الرياح بما تشتهي سفنهم ، فان قبلوأ فانهم يساهمون في تاسيس هام لتداول السلطة.وان لم يقبلوا فسيجعلون وتيرة الاتجاه الاعظم تتسارع اكثر ضدهم.

وبالمقابل ترتبط قواعد اللعبة المحلية بقواعد اللعبة الدولية ، فعلى سبيل المثال نجد أن دولة كالامارات العربية تتناقض وبحدة في علاقاتها مع قطر حول العلاقة مع الاخوان المسلمين ،لكن الدولتين اجتمعتا(الامارات وقطر) في تدريبات الطيران الاخيرة مع اسرائيل ، فكيف سترى حركة الاخوان المسلمين المشهد هنا؟ هل تناقض الدولتين مع بعضهما بخصوص العلاقة مع الاخوان هو الاولى، ام الاولوية من منظور الاخوان المسلمين لتجانس موقف الدولتين في العلاقة مع اسرائيل؟

اخيرا..

في عام 2005 ،اكملت دراسة تم نشرها في مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت، عن مستقبل الظاهرة الدينية،، وتوصلت في تلك الدراسة الى ان العالم الاسلامي سيعرف حتى عام 2020 تناميا في الحركة الدينية لكن هذه الحركة ستبدأ في الانكفاء مع عام 2020 تحت ضغوط دولية متحالفة ضدها، وستندمج الدول الاسلامية في روابط وتكتلات غير اسلامية ستعزز روابطها العضوية على حساب روابطها الآلية، وهو ما سيؤثر على الحركات الدينية اضافة للمتغيرات التي اشرت لها في بداية هذا المقال.

وفي عام 2010، نشرت مع جامعة القدس المفتوحة في فلسطين المحتلة دراسة حول مستقبل الاسلام السياسي في المنطقة العربية ، وتوصلت باستخدام منهجية "مصفوفة التأثير المتبادل " ومنهجية " التدرج السببي" الى ان الحركة الاسلامية ستواجه ضغوطا هائلة مع عام 2022...وسيكون مجموع النقاط لصالحها هو 26 نقطة مقابل 126 نقطة لغير صالحها، وهكذا سيكون المنحنى الحالي لغير صالحها، دون ان يعني ذلك انها لن تشهد دورة جديدة لكنها ستكون بسقف ادنى بفعل قانون الاتجاه الاعظم ..ربما.

 


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير