وليد عبد الحي يكتب: الوظيفة الاعلامية في نظم الاستبداد

{title}
أخبار الأردن -

  وليد عبد الحي

لعل الظاهرة السياسية هي الأكثر مراوغة للفهم من ناحية ولكنها الاكثر غواية للسعي خلفها من ناحية ثانية، وتزداد حدة هذه الثنائية في النظم الاستبدادية كما هو الحال في الدول العربية، وهو ما يوقع الباحث بين قرني الاحراج كما يقول المناطقة.

وعند تصنيف النظم الاستبدادية أجد ان تقسيمات العالم الفرنسي الاكثر شهرة في هذا المجال وهو موريس ديفرجيه هي الاكثر وضوحا ، فهو يقسمها الى نمطين مركزيين هما الاستبداد الثوري والاستبداد الرجعي ، يضاف لهما استبداد وظيفي يتمثل في استبداد الجند(العسكر)،فهؤلاء قد يكونوا هم نواة الاستبداد الثوري وقد يكونوا هم درع الاستبداد الرجعي او الثوري على حد سواء.

ويدعي كل من الاستبداد الثوري او الرجعي حرصا على المجتمع وتطويره ، ويزخرف أدبياته بمفردات المصلحة الوطنية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتاريخ والكرامة ، وكثيرا ما تم توظيف الأدباء والشعراء والمطربين ورجال الدين لتكريس "الرضا" الشعبي للمستبد سواء أكان المستبد ثوريا او رجعيا.

ويتمحور المتغير المركزي لصفة الاستبداد حول " درجة المشاركة الفعلية للمجتمع في صناعة القرار من ناحية وفي اتخاذه من ناحية ثانية"، لكن النظم الاستبدادية بوجهيها الرجعي والثوري تبدع شبكة من مستنقعات التمويه " كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمآن ماءً" لخلق الوهم بعدم التفرد بالقرار.

وتشكل وسائل الاعلام الرسمية احد ابرز تمويهات الاستبداد، وارى ان فهم حقيقة سياسة اية دولة استبدادية يجب ان يضع رسالتها الاعلامية في وحدة العناية المركزي ويجري عليها "تحليل مضمون" وبروية ودأب شديد، فعلى سبيل المثال من الضروري تحديد : ما هو الموضوع الاكثر تكرارا في اعلام المستبد ؟ ، اين ينشر الموضوع في الصفحات الاولى او الوسطى او الاخيرة، او مدة الحديث عنه في الوسيلة الاعلامية الرسمية، طبيعة الصورة التي ينقلها عن الموضوع هل هي سلبية ام ايجابية ام محايدة، فهم دلالات المفردات( فمثلا اغلب المحطات العربية تقول داعش بينما الجزيرة تقول تنظيم الدولة لماذا ؟ ، صورة ايران في اعلام دول التطبيع هي صورة سلبية في الغالب، بينما صورة امريكا اقل كثيرا، أو نجد من يقول الجيش التركي او الليبي او السوري والبعض يقول جيش النظام او حتى جيش اسم رئيس الدولة (جيش الاسد او جيش القذافي...الخ)،ثم هناك اعلام التغييب والذي يقوم على تغييب الموضوعات الحساسة (مثلا لماذا غاب خبر المناورات العسكرية القطرية الاسرائيلية الاماراتية مع اسرائيل في اليونان عن اخبار الجزيرة وسكاي نيوز والحدث والاعلام المغربي؟)، بل ان نظرة عابرة على الاعلام السوري الجديد نجد ان موضوع سيطرة اعضاء جبهة تحرير الشام على الوزارات والمؤسسات السيادية يكاد ان يكون معدوما ، وتغييب تقارير مركز حقوق الانسان السوري المعارض عن تقارير الجزيرة وأخواتها، بل ان التدخلات الايرانية في الشأن السوري حظيت بتكرار يعادل حوالي 16 ضعف التدخلات العسكرية الاسرائيلية لماذا؟ ، والملاحظ ان المستبد الخليجي يحدثك عن اهمية السلام والوحدة في السودان، لكن اعلامه إما مسارع لنقل انتصارات الجيش السوداني( كالجزيرة والعربية وتلفزيون العربي ) او يقدم لك اخبارا عن مواصلة قوات الدعم السريع مقاومتها(كتلفزيون الغد وسكاي نيوز..الخ)،وهو ما يعكس حقيقة مواقف من يقف وراء كل منهما، ويمكن سرد عشرات المؤشرات على قياس توجهات الاعلام الرسمي وتطابقها مع الموقف " الحقيقي" للدولة اكثر من تطابق تصريحات المستبد مع ذلك الموقف،فالمستبد يراوغ لضرورات ميكافيلية ،لكنه يترك اعلامه يعري اي التباس.

والملاحظ ان اعلام الاستبداد الثوري تسيطر عليه مفردات التغيير والعدالة الاجتماعية والتطور والتحرر من الاستعمار (دون اية اشارات لكيفية صنع واتخاذ القرار في هذه الموضوعات التي كثيرا ما تكون من صنع واتخاذ فرد واحد) بينما يركز الاعلام عند الاستبداد الرجعي على الامن والرفاه والقيم التقليدية ذات النكهة الابوية، وما يجمع الحالتين هو ان كليهما يفترض ان دور المجتمع هو "التلقي" لا المساهمة في صنع القرار واتخاذه.

وإذا اخذنا احداث غزة، ستجد ان اعلام المستبد الثوري يسعى لخلق الاحساس "بخيانة المستبد الرجعي للمقاومة " بينما يركز اعلام المستبد الرجعي على خلق الاحساس" بتوريط المقاومة للمنطقة في عملية عبثية"، فتجد المقابلات والاخبار والتقارير ورسوم الكاريكاتير والصور والفيديوهات في اعلام كل نمط يتسق تماما مع التوجه الحقيقي لسياسة المستبد سواء اكان ثوريا او رجعيا.

وثمة طارئ دخل على تمويهات الاعلام الاستبدادي ، الا وهو توظيف الذكاء الاصطناعي في الترويج للتعظيم او التحطيم لصورة زعيم او حركة او مفكر او غير ذلك، فان كان من جُند المستبد الثوري او جند المستبد الرجعي رسموا له صور المهابة وروجوا محاسنه التي لا حصر لها، وان كان من خصوم اي من المستبدين رسموه راقصا او متسولا او باكيا او أهوجا...ويتم كل ذلك لاسترضاء توجهات المستبد، فمحمد مرسي في الاعلام الرسمي المصري اقرب للساذج والمتخلف(رغم انه استاذ هندسة عمل في جامعات امريكية ومصرية) بينما الرئيس الحالي تحول في اعلامه الى " البركة ذاتها" .

خلاصة القول: لا تصدق نصوص المجاملة والتمويه في خطابات المستبد عند الموقف الملتبس ، فإن اردت معرفة الموقف الحقيقي للدولة فعليك مراقبة اعلام المستبد ، ومن يقرأ كتاب Bob Woodward وعنوانه "War"، يعرف ان مواقف الدول العربية من طوفان الاقصى تتسق مع مضمون اعلامها اكثر مما تتسق مع مضمون اقوال المستبد رجعيا او ثوريا.

 


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير