أبو رمان يكتب: نعم "تغيير ثقافي"... ولكن في أيّ اتجاه؟

محمد أبو رمان
يعمل نتنياهو على إحداث ما أسماه "تغييراً ثقافياً" في العالم العربي والإسلامي، شبيهاً بما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في كل من ألمانيا واليابان، وهو ما يعني ضمنياً "الاستسلام" وإخراج فكرة أو مفهوم "المقاومة" أو النضال العسكري من معادلة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب عموماً، وذلك عبر استعراض القوة العسكرية الإسرائيلية الهائلة التي ظهرت في مرحلة ما بعد "طوفان الأقصى"، وما انتهت إليه الأمور من "حرب إبادة إسرائيلية" بحق الفلسطينيين، ثم مخطّطات التهجير القسري في غزّة، ولاحقاً كما يؤكّد سياق الأحداث في الضفة الغربية.
خرج العرب، أنظمةً وجيوشاً، من معادلة الصراع مع إسرائيل منذ ما يقارب خمسة عقود (اتفاقية كامب ديفيد في 1978)، جرياً على قاعدة هنري كيسنجر "لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سورية"، وتوالت اتفاقيات السلام مع إسرائيل، حتى من حركة فتح التي كانت تتبنّى سابقاً النضال المسلّح، والدول العربية، إلى أن بدأ ظهور الحركات ما دون الدولة، مثل حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي، فتغيّرت بنية الصراع العسكري، ولاحقاً حلّ محور الممانعة محلّ النظام العربي في التصدّي لإسرائيل، ولو شكلياً، وخاضت إيران مواجهة محدودة مدروسة النتائج معها، فيما بعد "طوفان الأقصى"، لكنها انتهت مع المواجهة العسكرية لخروج حزب الله وانهيار النظام السوري السابق، وتراجع الدور الإيراني والاستفراد بحركة حماس في قطاع غزّة واستنساخ ما جرى في الضفة الغربية.
قد تكون الفرصة مواتية اليوم، من منظور نتنياهو وجماعته (مع الأخذ بالاعتبار التغير في البنية السياسية في إسرائيل وصعود شبه مطلق للقوى اليمينيّة والتيارات الدينية) لإجراء تغييرات في العقيدة العسكرية والسياسية، بعد تراجع إيران وحلفها، ووصول ترامب إلى البيت الأبيض وفريقه اليميني الصهيوني السافر، ذلك كلّه يمنح "فرصة تاريخية" غير مسبوقة لإسرائيل لتثبيت واقعٍ جديد، وفي مقدّمة ذلك إنهاء القضية الفلسطينية بصورة كبيرة، سواء في إنهاء حكم "حماس" وسلاحها في غزّة أو حتى حل السُّلطة الفلسطينية وتهويد القدس، واستثمار الفراغ الاستراتيجي الإقليمي، فلا نظام عربياً قادرٌ أو مستعدٌّ للمواجهة العسكرية، وربما الدبلوماسية بسبب الخشية من إدارة ترامب، ولا الحركات الإسلامية التي تصدّت لاحقاً للمشروع الإسرائيلي وواجهت هجوماً تدميرياً غير مسبوق، لمحاولة سحقها كاملة.
هل سيؤدّي هذا التفوق العسكري غير المسبوق إسرائيلياً في المنطقة إلى التغيير الثقافي المنشود، الذي أخبرنا عنه نتنياهو؟ الجواب أنّه سيؤدّي إلى تغيير ثقافي، لكن بصورة معاكسة تماماً، هو سيدمّر ما تبقّى من شرعية النظام الرسمي العربي ومصداقيته أمام الشارع العربي، وهو سيؤدّي إلى انتهاء خطاب ما يسمّى "محور الاعتدال العربي"، بسبب انهيار المحور الآخر (الإيراني) أولاً، وبسبب عدم واقعية ولا جديّة ما يطرحونه من رؤى أمام الموقف الإسرائيلي، وإذ أضفنا هذه الأزمة السياسية العميقة مع الأزمات الداخلية المركّبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بمعنى أنّ ما يحدُث حالياً بمثابة وصفة لانفجارات عربية كبيرة، في دولٍ عديدة.
كيف ستحدُث هذه الانفجارات وما هي نتائجها؟ يكاد الجواب عن هذا السؤال يكون من الصعوبة بمكان، لكن الواضح أنّ النظام الرسمي العربي بصيغته الراهنة وأوضاعه الحالية في حالة تدحرج حرّ نحو الانهيار والتفكك، والبديل ليست حركات تقبل الأمر الواقع وتستسلم للهيمنة الإسرائيلية، بل موجاتٌ من الغضب والحركات والتوجّهات الراديكالية التي تجعل من مفهوم الاستقرار الذي تسعى إليه إسرائيل هشّاً ومحدوداً.
نتنياهو وجماعته يفكّرون في التفوّق الأمني الاستراتيجي وفي التغيير الثقافي عبر القوة المفرطة، مثل الإبادة التي حدثت لمدن كاملة في اليابان أو تدمير ألمانيا النازية، مع الفرق الشديد في المقارنة، ويروْن أنّ الحل الأمثل إقليمياً إضعاف الجميع وإبقاء إسرائيل وحدها قوية، بتحويل سورية والضفة الغربية وربما مناطق أخرى إلى دويلات وكانتونات عرقية وطائفية متصارعة، وضرب أي قوة عسكرية قد تشكل تهديداً في أي يومٍ، حتى وصل الأمر إلى التحرّش بالجيش المصري، أخيراً، وبالسعودية وغيرها.
لا تعني النتيجة بالضرورة أمن إسرائيل، ولا يعني التغيير الثقافي الاستسلام، بل مزيد من الغضب والاحتقان وبناء الردّ ليس فقط ضد إسرائيل، بل ضد مصالح أميركا التي قادها ترامب إلى مرحلة أخطر مما سبق "11 سبتمبر" (2001)، وضد النظم العربية التي أصبحت عاجزة تماماً عن تقديم أي حلول أو إجابات عن الأسئلة التاريخية الكبرى.