سوريا تتجه إلى سيناريو محبط

{title}
أخبار الأردن -

 

قال عضو الحزب الجمهوري الأمريكي بشار جرار إن سوريا لطالما بدت وكأنها عالقة بين تاء مربوطة تجذبها إلى أعماق التاريخ وألف ممدودة تدفعها نحو مستقبل غامض.

وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هناك تبلورًا في المشهد السياسي الدولي حيال سوريا، عبّر عنه السيناتور جي دي فانس بشكل مباشر، حيث أكد انعدام الثقة بالسلطات الحالية في دمشق، وهو موقف ينسجم مع الرسائل التي سبق أن أُرسلت عبر شخصيات سياسية بارزة مثل سباستيان غوركا وتولسي غابارد، مضيفًا أن هذه المواقف تعد امتدادًا لموقف الرئيس دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، حينما شدد على ضرورة "البقاء بعيدًا" عن التدخل في الشأن السوري، وهو توجه بدا أكثر وضوحًا في سياسات الإدارة الجمهورية تجاه المنطقة.

أما فيما يتعلق بالقصف المكثف الذي يستهدف اليمن وجماعة الحوثي، فإنه لا يمكن عزله عن المشهد الإقليمي الأوسع، حيث يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن التطورات الحاصلة تأتي ضمن سياقات استراتيجية مترابطة، تعيد رسم خريطة النفوذ في المنطقة وتعيد ترتيب الأولويات وفقًا لمعادلات جديدة.

وبيّن جرار أن المؤشرات المتسارعة على الأرض توحي بأن سوريا باتت أقرب من أي وقت مضى إلى سيناريو التفكيك، حتى وإن لم يكن ذلك بالضرورة في إطار إعلان رسمي لاستقلال أقاليم معينة أو انضمامها إلى دول أخرى، مضيفًا أن المشهد الحالي يعكس معادلة أكثر تعقيدًا، حيث قد يتخذ التفكك أشكالًا غير تقليدية، سواء من خلال ترسيخ سلطات أمر واقع، أو عبر إعادة توزيع مراكز القوى داخل البلاد، بما يؤدي عمليًا إلى تقويض الدولة المركزية دون الحاجة إلى إعلان رسمي بانفصال أي جزء منها.


وصرّح أن الأمر لم يكن مجرد خلاف لغوي، لكنه تحوّل إلى معيار أيديولوجي لرصد الاصطفافات السياسية، بين من تمسك بمفردة "ثورة" ومن رأى في الصراع معركة بقاء لنظام الأسد، مضيفًا أن اليوم، مع سقوط السلطة المركزية، لم يعد النقاش يدور حول النظام أو المعارضة، بقدر ما أصبح يرتبط حول هوية من يملكون مقاليد الأمور، ومن يُملي عليهم التوجهات، ومن يرسم الحدود الجديدة للصراع في بلاد تعاقبت عليها مشاريع الإحلال السياسي والتوظيف العسكري على مدى عقود.

وبيّن جرار أنه لا يمكن النظر إلى المشهد السوري الراهن بمعزل عن التحولات البنيوية التي أصابت النظام الإقليمي برمّته، إذ لم يعد الصراع مجرد مواجهة داخلية بين نظام ومعارضة، بقدر ما بات ساحةً لإعادة توزيع موازين القوى وفق منطق جديد يعيد تعريف الفاعلين الأساسيين، سواء على المستوى المحلي، أو الإقليمي، أو الدولي، وإذ تتكشّف اليوم ملامح مرحلة ما بعد الأسد، تتعاظم التساؤلات حول طبيعة "الإحلال الجيوسياسي" الجاري، ومدى قدرته على تشكيل معادلة استقرار حقيقية، أم أنه مجرد عملية استبدال لقوى بأخرى، وفق منطق استنزافي طويل الأمد، يحافظ على ديناميكية الصراع بوصفه أداة لإدارة النفوذ لا لإنهائه.
أنقرة وسياسة الفراغ

ونوّه إلى أن رفع العلم التركي على قلعة حلب، كان إعلانًا صريحًا بأن أنقرة لم تعد تتعامل مع سوريا بوصفها ملفًا أمنيًا أو ساحة نفوذٍ مؤقتة، وإنما باعتبارها امتدادًا استراتيجيًا يتطلب ترتيباتٍ سياسية وعسكرية دائمة، وبذلك، فإن التصريح الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ردًا على "القلق البالغ" الذي عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، كان تأكيدًا ضمنيًا على أن ترتيبات "ما بعد النظام" قد وُضعت بعناية، وفق رؤية تُراعي المصالح التركية في الشمال السوري، وتمنح أنقرة موقعًا محوريًا في صياغة المشهد المستقبلي.

وأشار جرار إلى أن موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يكن أقل وضوحًا، حين حذّر خلفه جو بايدن من مغبة التورط في "الفوضى والخطر"، مشددًا على أن ما يحدث ليس سوى تتويجٍ لرهاناتٍ تركيةٍ طويلة الأمد، وأن "مفتاح سوريا بات في يد إردوغان"، متابعًا أن هذا التصريح، وإن بدا وكأنه توصيفٌ لمعادلة القوة الجديدة، إلا أنه يعكس أيضًا إدراكًا أمريكيًا متأخرًا لحقيقة أن واشنطن لم تعد الطرف الأكثر تأثيرًا في تحديد مآلات الصراع السوري، وأن دورها بات أقرب إلى المتفرج الذي يراقب إعادة توزيع النفوذ دون قدرة حقيقية على فرض شروطه كما كان الحال في سنوات الحرب الأولى.

من ثوار وجهاديين إلى سلطات أمر واقع

في خضم هذه التحولات، لفت جرار الانتباه إلى هناك تبلورًا لمعضلة جوهرية تتعلق بطبيعة القوى التي تملأ الفراغ السياسي والعسكري، فالمفارقة الكبرى تتمثل في أن الفاعلين الجدد ليسوا تياراتٍ مدنيةً ذات مشروع سياسي واضح، وإنما قادة فصائل مسلحة، خرجوا من عباءة الحركات الجهادية، ويحاولون اليوم إعادة تعريف أنفسهم ضمن قوالب سياسية أكثر قبولًا على المستوى الدولي، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ"أبي محمد الجولاني"، الذي يسعى لتقديم نفسه زعيمًا انتقاليًا، يُروّج لرؤيةٍ قائمةٍ على دمج مختلف المكونات السورية، بل ويمضي أبعد من ذلك بتوقيع اتفاقٍ مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في خطوةٍ تعكس محاولة لإعادة هندسة التحالفات بما يضمن تموضعًا جديدًا له في الخارطة السياسية المقبلة.

غير أن هذه التحركات، على أهميتها، لا تلغي الإشكاليات العميقة التي تطرحها فكرة "التحول من الفصائلية إلى الدولة"، إذ إن محاولة إخضاع جماعاتٍ ذات خلفيات أيديولوجية متباينة لمنطق المؤسسات الحديثة تبدو أقرب إلى عملية هندسة سياسية قسرية، قد تصطدم بمعضلات بنيوية تجعلها غير قابلة للاستدامة على المدى البعي، كما قال في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.

ما بعد الأسد: تفكك السلطة أم إعادة إنتاجها؟

وتساءل جرار ما إذا كان يشهد النظام السوري عملية إحلال حقيقية، أم أننا أمام إعادة إنتاجٍ مُعدَّلةٍ للسلطة تحت عناوين جديدة؟... مجيبًا أن معظم المؤشرات ترجّح السيناريو الثاني، حيث لم تؤدِّ التغييرات المتسارعة إلى ولادة نموذجٍ سياسيٍّ جديدٍ قائمٍ على التعددية والديمقراطية، بقدر ما أسهمت في تكريس منطق "التفكك المنظم"، الذي يُبقي على مركزية القوة بيد مجموعاتٍ عسكريةٍ متنافسة، تتحرك وفق إملاءات إقليمية ودولية، أكثر من كونها تعكس إرادة سورية مستقلة.

ونبّه من أن إعادة هيكلة الجيش السوري، ودمج فصائل مثل "قسد" ضمن إطار وطني جديد، قد يبدو ظاهريًا وكأنه خطوة نحو توحيد البلاد، لكنه في جوهره قد يكون مجرد إعادة تدويرٍ للقوى المسلحة، وفق صيغةٍ قد لا تؤدي إلى استقرار حقيقي، بل إلى تكريس واقع الميليشيات المتنافسة، مع إعادة ضبطها ضمن أُطر أكثر قبولًا دوليًا.

أمريكا... الانكفاء الاستراتيجي وإدارة الفوضى

وقال جرار إن واشنطن تبدي حذرًا تجاه التدخل المباشر في المشهد السوري، إلا أنها لا تزال تمارس دورًا في إدارة توازنات القوى عبر آليات غير مباشرة، من خلال دعم أطرافٍ معينة، أو فرض شروطٍ على الترتيبات السياسية القادمة، وهذا ما عبّر عنه المستشار الأمني البارز سباستيان غوركا، حين أكد أن "الرهان على قدرة الفصائل الجهادية السابقة على تشكيل حكوماتٍ تمثيليةٍ يظل أمرًا محفوفًا بالمخاطر"، وإن كان قد أشار إلى أن "إعادة تأهيل هذه التنظيمات قد يكون خيارًا مطروحًا، وفق محدداتٍ تفرضها المصالح الاستراتيجية الأمريكية".

القادم لسوريا

وأشار إلى أن الحديث لم يعد حول إسقاط نظامٍ أو تثبيته، بقدر ما أصبح يتمحور حول إعادة تعريف مركزية السلطة، وإيجاد توازنٍ جديدٍ بين مختلف الفاعلين، بما يضمن استمرار المصالح الإقليمية والدولية، ومع أن البعض قد يرى في هذه التحولات خطوةً نحو إنهاء الحرب، إلا أن الواقع يشير إلى أن البلاد قد دخلت مرحلةً أكثر تعقيدًا، حيث لا تزال الترتيبات الجارية عاجزةً عن إنتاج نموذجٍ حقيقيٍّ لدولةٍ مستقرةٍ قابلةٍ للحياة.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير