المجالي يكتب: ترامب

عبدالهادي راجي المجالي
أسوأ فترة مرت على الأردن في العلاقة ما بيننا ومابين الولايات المتحدة , هي مرحلة (جيمي كارتر) , لقد سرب وثائق للصحافة الأمريكية عن الملك حسين , وحاول شيطنة صورته في الداخل الأمريكي ..ويقال أنه هو من أعطى الضوء الأخضر لبدء الحشودات السورية على الحدود الأردنية .
(جيمي كارتر) لم يستهدف الملك حسين فقط بل استهدف الأردن أيضا , وكانت فترة حكمه خطيرة جدا على البلد , لكنه تورط بفضائح كبيرة ..وسقط في الدرك الأسفل , هو الرئيس الوحيد الذي حاول أن يزيل القليل من الغبار عن تاريخه عبر انحيازه الكاذب للقضية الفلسطينية ...وفشل .
ترامب ..لايمثل صورة أمريكا الديمقراطية الحرة , هو يمثل العصبية الأمريكية ..يحاول أن ينتج وطنية أمريكية جديدة , هو يكره أوروبا لأن ألمانيا هي نتاج بسمارك ونيتشه , ولأن فرنسا هي من أنتجت القانون وأنتجت العقد الإجتماعي ..ولأن إيطاليا وإن عادت للقليل من الفاشية إلا أنها تبقى وريثة روما ...(ترامب ليس غبيا وليس (أهبلا) ..لكنه يكره التاريخ ويكره الحضارة , ويعتقد أن القوة فقط تتمثل في الدولار والماكنة العسكرية ..بعكس فرنسا مثلا التي تنظر لجان جاك روسو وجان بول سارتر وللثورة الفرنسية وللقانون الفرنسي وللفرانكفونية على أنها هي القوة الحقيقية للدولة ...بعكس الفاتيكان راعي وحامي الكاثوليكية , بعكس اليونان مثلا وريثة الأرثوذكسية ...
ترامب يعيش وهم الأنجلوساكسونية , ما زال يعتبر أوروبا رهينة الكاثوليكية ..مازال ينظر لها على أنها تمثل عبئا على فهمه الجديد, لمعنى الحضارة ولمعنى القوة ...
هو يحاول أن ينتج تميزا في الشكل عبر ربطة عنق من الحرير غريبة , يحاول أن ينتج خطابا فوقيا , ويقفز عن الدبلوماسية ...يحاول أن يهشم المؤسسات , ويقود بسلطة الفرد المطلقة ..
إن أخطر ما فعله ترامب هو تسريب وثائق مقتل كينيدي , والهدف من ذلك هو شيطنة (السي اي ايه) ..وإحكام قبضته عليها , هو لم يقصد المصداقية والشفافية ..كان قصده من تسريب الوثائق فضح المؤسسات وتمهيشها , وجعلها خاضعة له ...
ترامب لاينتج قرارات مفصلية تحمي أمريكا , هو يقود حربا على الحضارة ..هو يكره الثقافة , يحتقر الموسيقى ..ربما لم يحضر حفل (باليه) في حياته وإذا سألته عن (شوبان) لن يعرفه , وإذا سألته عن حضارة الساموراي لن يعرف ..هو يعاني من أزمة شخصية مفادها أن أغلب رؤوساء أمريكا .. نتاج مدارس ليبرالية .. نتاج (نعوم تشومسكي) ... تأثروا بـ (هنتنغتون) .. قرأوا (تشارلز ديكنز) ... اطلعوا على التاريخ الأمريكي, وأدركوا في النهاية أن : (نعوم تشومسكي) هو الوحيد الذي شخص أمريكا وتاريخها حين قال : (أمريكا لم تنتج شيئا ..كل شيء استوردته من المستعمر ..القانون , الدستور , النظام ..كل شيء) .
لهذا حين ظهر ذات يوم في حلبة مصارعة وبدأ باستعراض ضرب الخصم هو لم يقصد (الشو) بقدر ما كان يقدم ثقافته الجديدة ومشروعه الجديد .
سيفشل ترامب , ولا داعي للخوف من تصريحاته , لأن الفرنسي لن يسمح للأمريكان بتخطي مشروعه الحضاري , ولأن الألماني ...يدرك أن (كونراد أيناور) ..حالة عالمية , حالة قيادة فريدة هي من أخرجت ألمانيا من الزمن النازي , ولن يسمح بأن تعود السلطة المطلقة للفرد , عبر ترامب ..لن تسمح بأن يفرض هيمنته عليهم ...الروس يفهمونه , ويدركون أنهم ورثة القيصر وأنهم لايقاتلون في أوكرانيا طمعا في الجغرافيا ...بل من أجل استعادة منابت الحضارة الروسية ومن أجل استعادت الأطراف وجعلها تابعة للمركز , من أجل جعل روسيا حاضرة في المشهد العالمي بإرثها الثقافي والحضاري والعسكري ..
الصين تعرفه جيدا , وتعرف أن خواصر الإقتصاد الأمريكي قابلة للطعن ..والصين لن تسمح لأحد بأن يمس حالة الإنتاج فيها , لن تسمح أيضا بأن تجعل أحدا يقلل من نفوذها وقوتها , لن تسمح بأن تفرض عليها بعض القوانين التجارية ..هي تؤمن بأن مصانعها , ليست للأغنياء بل هي لفقراء العالم .
العالم الان يعاني من أزمة حقيقة , من أزمة رجل يقود أقوى دولة ..ويكره الحضارة والثقافة , يكره الأدب والتاريخ ...لهذا لن يسمح العالم بأن تتحول أمريكا إلى عصابة , ولن يسمح لهذا الرجل ...بأن يلغي من الذهن الثورة الفرنسية ...لن يسمحوا له بأن يشطب تاريخ (الإليزيه) .. لن يسمحوا له بأن يصادر الكتب والموسيقى والعقل .
المطلوب ليش إنقاذ العالم من ترامب , المطلوب هو انقاذ أمريكا ...وأظن أننا لسنا وحدنا من نعاني من تصريحاته ومخططاته , المؤسسات الأمريكية وأولها (السي اي ايه) والبنتاغون ..هي الأخرى تعاني , لأنها تعرف أن هذا الرجل إذا استمر فستتحول (السي اي ايه) ..إلى (غستابو) جديد .
سأنهي المقال بفقرة بسيطة , ما فعله كارتر مع الأردن كان أحقر مما فعله ترامب بألف مرة , ولكنه لم يستطع أن يغير في البلد أو دورها أو تاريخها ..وأظن أن معركة جيمي كارتر مع الملك حسين تتكرر الان ما بين الملك عبدالله وترامب ..لكن الأردن لايخوض هذا الأمر وحيدا , فالعالم كله يدرك ..أنه إذا سمح لعقلية العصابة أن تستمر في أمريكا , فهذا يعني بأن من الممكن في لحظة ..أن نقبل بأن نهدم برج (بيزا) في إيطاليا من أجل بناء (مول) ..عقلية ترامب هكذا , لوعرضت عليه هدم برج (بيزا) الإيطالي وعمل مجمع باسمه لوافق ...
القادم سيكون صعبا , لكن الأردن لن يتأثر لأن الجغرافيا تخدمه ..ولأنه ضرورة ملحة في الإقليم , ولأن العالم لن يتركه وحيدا في معركته ...لكن الأصعب على العالم سيكون الداخل الأمريكي , هم يدركون إذا نجح نموذج ترامب واستمر ..حتما ستتحول أمريكا إلى (عصابة) ...وأظن أن المؤسسات الأمريكية تعرف خطورة ذلك .