الحسبان يكتب: برنامج رئاسي أم مشروع انتقامي؟
أحمد حمد الحسبان
هل ابتعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب كثيرا عن تصوراته الشرق أوسطية التي حاول تنفيذها خلال فترة رئاسته الأولى؟
وهل تختلف الولايات المتحدة عن الدول الأخرى "النامية"، كوصف للمجاملة أو يختلف رئيس الولايات المتحدة ـ الدولة الديمقراطية وأعظم دولة في العالم ـ عن دول العالم الثالث في مجال تسلط الحكام، وتفردهم في اتخاذ القرارات والتجاوز على المؤسسية والدستور، وعلى ثوابت"الدولة العميقة"؟
وأين دور المؤسسات العميقة في الدولة في ضبط ممارسات الحكام في الدول التي تصنف بأنها "متقدمة"، و"ديمقراطية"؟ وهل يكفي أن يفوز الرئيس الحزبي بالمنصب ليصبح الحاكم الأوحد، يقرر ما يشاء وينفذ ما يشاء ويعاقب من يشاء وفقا لأسس شخصية؟
تساؤلات تفرض نفسها في ضوء ما نشهده من ممارسات لزعيم دولة توصف بأنها أكبر الديمقراطيات في العالم، وأقوى دولة عسكريا وسياسيا واقتصاديا. فغالبية القرارات التي صدرت مؤخرا بدت وكأنها قد اتخذت فرديا، وعلى مستوى الرئيس فقط.
قرارات ترامب لم تتوقف عند البعد الداخلي للولايات المتحدة، بل تخطتها إلى الكثير من البلدان. واللافت في الكثير منها أنها يغلب عليها الطابع الانتقامي داخليا وخارجيا. وبدت وكأنها صدامية وأنها امتداد لفترة حكمه السابقة. والدليل على ذلك ان بعضها قد تحول إلى أزمات أدارها الرئيس شخصيا.
فقد بدا الرئيس الأميركي الجديد القديم دونالد ترامب وكأنه يسابق الزمن من أجل تنفيذ مشروع انتقامي خلافا لكل ما درجت عليه تقاليد الرئاسة في البيت الأبيض. فقد حرص ترامب على كسب كل ثانية أعقبت عملية التنصيب في إطلاق مشروع خلافي، أو تنفيذ مواجهة مع طرف ما بغض النظر عمن يكون ذلك الطرف، وما هو المشروع المستهدف.
وخلافا لما أكده في خطاب التنصيب بأنه لن تكون هناك حروب في فترة رئاسته، وما قدمه من رؤية اقتصادية ومشاريع وصفها بأنها تضع الولايات المتحدة في"عهدها الذهبي"، أعلن عن سلسلة من القرارات والتوجهات ينطبق عليها وصف الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى في وصف الناقة العمياء بـ"خبط عشواء". حيث ألغى قرارات سلفه، وأبدى انحيازا كاملا لليمين الإسرائيلي بكل تطرفه دون أن يتطرق بشيء إلى الحقوق الفلسطينية.
فقد ألغى قرارا بتجميد منح إسرائيل قذائف ثقيلة واسعة التدمير، وعفا عن مستوطنين متهمين بارتكاب مجازر، وألغى جميع قرارات بايدن خلال فترة رئاسته معتبرا أن فترة حكمه غير قانونية، وجمد المساعدات التي تقدمها واشنطن لكل الدول مبقيا على حصة كل من إسرائيل ومصر فقط.
وألغى ترامب العديد من البرامج الممولة من قبل الوكالة الأميركية "u.s.aid" ما يعني وضع مستقبل عشرات الآلاف على مستوى العالم وما يزيد على عشرة آلاف أردني يعملون فيها في مهب الريح. ووضع عشرات المؤسسات التي تتعامل مع تلك البرامج على حافة الإفلاس.
اللافت هنا، أن حصة الأردن من تلك القرارات المتطرفة كانت كبيرة، فإضافة إلى تجميد المساعدات لفترة ثلاثة أشهر لغايات الدراسة والتقييم، ووقف برامج الوكالة الأميركية للتنمية، بدأ الرئيس شخصيا ممارسة بعض الضغوط من أجل تحقيق مكاسب لدولة الكيان الإسرائيلي المتطرف على حساب الأردن. فقد كشف عن أخطر مشاريعه بالطلب من الأردن استقبال فلسطينيين من سكان غزة وإسكانهم لفترات "قد تكون مؤقتة أو طويلة"، بحجة المساعدة في حل مشكلة القطاع الذي دمرته الصواريخ الإسرائيلية، وبزعم أنه يحتاج إلى جهد كبير من أجل إعادة إعماره وملمحا الى المشاركة في عمليات إسكانهم. ووجه الطلب نفسه للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
الطلب "الترامبي" قوبل بالرفض أردنيا ومصريا، كما قوبل بالاستهجان على نطاقات واسعة من العالم. وسط قراءات تميل إلى أن ترامب قد لا يسكت على رفض طلبه الذي رحب به متطرفو الحكم في الكيان الإسرائيلي. وأن السنوات الأربع المقبلة قد تكون أكثر سخونة من أي وقت مضى.
غير أن الشارع الأردني الذي يثق تماما بالملك عبدالله الثاني، ويعلم تماما ما يتمتع به جلالته من احترام على مستوى العالم، يرى أن الأردن قادر على الصمود في وجه أي تحديات يحاول الرئيس ترامب فرضها. كما أن ثقته الكبرى بالجيش الأردني والأجهزة الأمنية وبقدرة الشارع على نبذ أي خلافات والتوحد تحت الراية الهاشمية تجعل الدولة قادرة على تخطي الصعاب. ويستشهدون بما حدث في فترة حكم ترامب الأولى، حيث أعلن في تلك الحقبة عن "صفقة القرن" غير أنه لم يفلح في تنفيذ أي من بنودها على أرض الواقع.
وضمن هذا السياق، لا تخلو وسيلة إعلام، أو وسيلة تواصل اجتماعي، أو حتى مناسبة اجتماعية عادية من حث الهمم للتوحد ونبذ أي خلاف، والثقة بالملك ومختلف مؤسسات الدولة لمواجهة أي تحديات يمكن أن تفرضها تطورات الموقف.
وبالتوازي هناك قناعة بأن مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة تدرك مكانة الأردن ودوره في الحفاظ على السلم العالمي، وأنها ستتحرك لوقف أي استهداف يمكن أن يفكر به أي طرف من الأطراف المنحازة للصهيونية العالمية ولكيان التطرف الإسرائيلي.
كما أن الرئيس ترامب نفسه قد يعيد النظر في موقفه ويتوقف عن مشروعه الرامي إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه. وسيدرك أنه لا حل للقضية إلا حل الدولتين، وهو الحل الذي يتبناه الأردن وتؤيده الكثير من دول العالم.
وبين هذه وتلك، فلا يوجد من بين العرب من يؤيد مثل تلك الفكرة التي توصف بأنها "عبثية"، وأنها قد تجاوزها الزمن، بدليل الرفض الفلسطيني والعربي المطلق لها، إضافة إلى عودة سكان غزة إلى مساكنهم المدمرة وفقا لاتفاق مع الكيان الصهيوني، وتمسكهم بأرضهم ووطنهم وحرصهم على إعادة بنائه بشتى الوسائل. كما أن فكرة التهجير المرفوضة أردنيا تبدو غير ممكنة، لعدم وجود تواصل جغرافي بين الأردن وغزة.