الدباس يكتب: ترامب والكيان الإسرائيلي.. خرائط جديدة.. أم أدوار قديمة؟!..
محمود الدباس - أبو الليث..
منذ اللحظة التي بدأ فيها ترامب حملته الانتخابية الأولى.. كان واضحاً في استخدامه لخطاب يتجاوز حدود السياسة التقليدية.. إلى تبني نهج استعلائي صادم.. حيث تحدث بصراحة تامة.. عن قضايا اعتادت الإدارات السابقة.. أن تدور حولها بلباقة وحذر.. فجاء ليقول ما لم يجرؤ الآخرون على قوله علانية.. وما صرّح به حول الشرق الأوسط.. والكيان الإسرائيلي تحديداً.. لم يكن مجرد وعود انتخابية.. بل بدا وكأنه خطة منهجية.. تعكس رؤيته للعالم.. ورؤية من يقفون خلفه ويدعمونه.
ترامب.. وهو الذي اعتاد على تقويض المعايير الدولية.. أطلق تصريحاته الأولى حول ضرورة توسع الكيان الإسرائيلي.. وكأن العالم قد عاد إلى زمن الاستعمار العلني.. حين كانت الدول العظمى تقرر مصائر الشعوب بجرّة قلم.. تحدث عن التوسع.. وكأن أراضي الفلسطينيين ودول الجوار.. مجرد عقارات تنتظر من يضع يده عليها.. وامتدت تصريحاته.. لتتطرق إلى ضرورة إعادة إعمار غزة بشكل "مختلف".. مصطلح غامض.. يحمل في طياته احتمالات خطيرة.. هل كان يقصد القضاء التام على الوجود الفلسطيني هناك؟!.. أم تحويل غزة إلى نموذج آخر من التهجير القسري؟!..
ثم جاء حديثه عن وقف المساعدات عن الأردن ومصر.. في سياق الضغط عليهما لقبول تهجير الفلسطينيين من غزة.. وكأن مصير الشعوب بات لعبة في يد إدارة.. لا ترى في المنطقة سوى ساحة لتطبيق مصالحها.. وأوهامها الأيديولوجية.. هذا النهج لا يعكس فقط سياسات آنية.. أو قرارات مرتبطة بموقف مرحلي.. بل يؤشر إلى رؤية طويلة الأمد.. تهدف إلى إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة.. بما يخدم الكيان الإسرائيلي.. ويقوض أي أمل للفلسطينيين في بناء دولتهم..
ولكن.. هل هذا هو خطاب المهزوم كما قد يبدو للبعض؟!.. وهل من يطلق مثل هذه التصريحات.. يعيش في حالة ارتباك.. نتيجة ما حدث في غزة؟!.. أم أن هناك رؤية أعمق.. وقراءة مغايرة للواقع؟!.. الواقع أن هذه التصريحات.. لا تصدر عن شخص يعيش حالة من الإحباط.. أو العجز.. بل تعكس خطة مدروسة.. تتحدى كل المعايير الإنسانية والسياسية والاخلاقية.. خطة تقوم على استغلال اللحظة التاريخية الحالية.. لتحقيق أهداف لم تكن ممكنة في السابق..
أما ما يُشاع عن السيدة اليهودية المتعصبة.. التي يُقال إنها دفعت له أموالاً طائلة.. لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.. والآن تموله لدفعه نحو تهجير الفلسطينيين.. فهو ليس مجرد إشاعة عابرة.. بل يتماشى مع مسار واضح.. من الدعم غير المحدود للكيان الإسرائيلي.. هذه التحركات لا تأتي عبثاً.. بل تعكس نفوذاً قوياً داخل أروقة الإدارة الأمريكية.. نفوذ لا يترك مجالاً للصدفة.. أو التردد..
وحين نستمع لتصريحات ترامب.. حول ضم كندا.. أو جعل قناة بنما تحت السيادة الأمريكية.. أو حتى اقتراحه الغاء حلف الناتو.. قد تبدو هذه الأفكار ضرباً من الخيال السياسي.. لكنها تذكرنا بوقائع تاريخية مشابهة.. كانت تُعتبر يوماً مستحيلة.. كإسقاط نظام صدام حسين.. وبناء الجدار العازل في فلسطين.. وتقسيم السودان.. وانهيار نظام الأسد.. أو حتى وعد بلفور.. الذي أعطى مالا يملك.. لمن لا يستحق.. فكل تلك الأحداث.. بدأت بأفكار مجنونة.. تحولت بمرور الزمن.. إلى كوارث وأمور واقعية.. مما يجعل تصريحات ترامب.. مهما بدت مثيرة للسخرية.. أو هستيرية.. جديرة بأن تؤخذ على محمل الجد.. ولا نمر عليها باستخفاف..
وفي ظل هذه التحديات التي تتشابك فيها المصالح والسياسات.. تصبح المسؤولية مشتركة بين الشعوب والحكومات.. فالشعوب عليها أن تدرك.. أن الوعي والتلاحم والتكاتف.. هو السلاح الأهم.. لمواجهة المخططات التي تُحاك في الظلام.. وتوجهه آلة إعلامية احترافية ممنهجة.. ولها أهدافها.. أما الحكومات.. فعليها أن تبني شراكات إقليمية حقيقية.. تعزز من قوتها التفاوضية.. وتستثمر في بناء اقتصاد مستقل.. ومستدام.. يقلل من التبعية والضغط الخارجي.. فالمواجهة تتطلب منظومة دفاع سياسي.. واقتصادي.. وثقافي.. تعمل على حماية الحقوق.. وتعزيز الصمود.. أمام محاولات إعادة تشكيل المنطقة.. وفق رؤى استعمارية جديدة..
وبعد كل هذا.. ومع تحمل الشعوب والحكومات لمسؤولياتها.. يبدو أن ترامب.. ليس مجرد رئيس أمريكي.. يحمل رؤية مثيرة للجدل.. بل هو أداة في يد قوى أيديولوجية.. واقتصادية.. متحصنة وممسكة بمفاصل صنع القرار الأمريكي.. تعمل على إعادة صياغة المشهد الإقليمي والدولي..
فهل نحن أمام سيناريو مكتوب مسبقاً.. أم أن الشعوب وقواها الحية.. لا تزال قادرة على تغيير مجرى الأحداث؟!..