الشريف يكتب: الأرض

{title}
أخبار الأردن -

  إسماعيل الشريف

وأنا الأرض، جسد ودم وتراب، وأنا الأرض، جرحي، بذرتي، وعشبي – سميح القاسم.

بعد توقيع الهدنة بين الصهاينة وحزب الله قبل بضعة شهور، عاد سكان الجنوب إلى بيوتهم وقراهم المدمرة حاملين الاعلام ترافقها زغاريد النساء التي امتزجت بدموع النصر والألم. وعند دخولهم منازلهم، وجدوا رسائل خطها مقاتلو حزب الله، يعتذرون فيها عن اضطرارهم لاستخدام هذه البيوت في عملياتهم العسكرية. فالمقاومة في لبنان، كما في فلسطين، وكما في أي من دول الرباط، تشكل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.

وفي المقابل، لم يعد المستوطنون إلى مستوطناتهم في شمال فلسطين المحتلة. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 82% من المستوطنين فقدوا الأمل في العودة.

وعندما ارتقى الشهيد يحيى السنوار في منزل آل أبو طه في تل السلطان، وقف صاحب المنزل فوق أنقاض بيته، يشع فخرًا واعتزازًا، قائلاً: «إن الكنبة التي جلس عليها الشهيد هي أطهر نقطة في العالم.» فتحولت تلك الكنبة البسيطة إلى رمز وطني فلسطيني. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد الحي يُعرف باسم حي السلطان، بل صار يُنادى بـ»حي السنوار»، تخليدًا لذكرى من جعل من كل زاوية فيه أيقونة للفداء، ومن كل ركن فيه حكاية تروى.

شهدنا أمس مشهدًا ملحميًا يجسد روح الصمود والانتصار، حيث عاد الغزيون إلى منازلهم المدمرة في شمال القطاع بعد خمسة عشر شهرًا من الإبادة الجماعية التي حاولت عبثًا أن تكسر إرادتهم. وعلى الرغم من حجم الدمار الهائل، أثبت أهل غزة للعالم أن أهداف الصهاينة من هذه الحرب قد تهاوت أمام إرادة لا تُقهر. لم يتمكنوا من القضاء على المقاومة، ولم يعيدوا أسراهم إلا عبر مفاوضات متكافئة، لتتبدد بذلك أوهام خطة الجنرالات وتتحطم تحت أقدام الغزيين العائدين كطوفان من العزة والإصرار، يكتبون بدمائهم وصمودهم فصلًا جديدًا في ملحمة الحرية.

وفي الوقت الذي يندفع فيه سكان غزة نحو شمال القطاع، ما زال سكان غلاف غزة من الصهاينة يعيشون في الفنادق، عالقين بين براثن الخوف وأشباح القلق. تبدو عودتهم إلى مستوطناتهم حلمًا بعيد المنال، فالأرض التي اغتصبوها تلفظهم بقسوة، وحالة اللايقين تطاردهم كظل ثقيل لا يفارقهم، تذكيرًا دائمًا بأن الغزاة، مهما طال بقاؤهم، مصيرهم الزوال.

وعلى الرغم من الإبادة الجماعية التي استهدفت الغزيين وحاولت اقتلاعهم من جذورهم، ظلوا متمسكين بأرضهم، يقبضون عليها كالجمر، متحدّين آلة الحرب الصهيو-امريكية. وفي المقابل، هاجر نصف مليون صهيوني إلى بلادهم الأصلية، يجرّون خلفهم أذيال الرعب والهزيمة. هذا المشهد يحمل دلالة ساطعة لا تقبل التأويل: الفلسطينيون هم أصحاب الأرض الحقيقيون، جذورهم ضاربة في أعماقها، عصيّة على الاقتلاع مهما اشتد بطش الاحتلال وطالت أيامه، بينما الصهاينة طارئين كغيرهم من المحتلين عبر التاريخ.

يثبت الفلسطينيون أن الأرض ليست مجرد تراب أو حدود جغرافية؛ إنها نبض قلوبهم وعمق هويتهم التي لا تنفصل عنهم. كل شجرة زيتون مغروسة، وكل صخرة صامدة، تحكي قصة أجيال كافحت، عاشت، ورحلت وهي تحمل في قلوبها حلم العودة والحرية. الأرض في عين الفلسطيني وطن وذاكرة؛ هي رائحة بيت الجد والجدة، وأغاني الحصاد التي تعطر مواسم الخير. مهما اشتد القهر وبلغ الدمار، يعود الفلسطيني إلى أرضه المدمرة ليعيد بناء حياته فوق ركام الألم، مؤمنًا أن البقاء على الأرض هو أبلغ أشكال المقاومة، وأن الصمود عليها هو انتصار يتجدد على كل محاولات الاقتلاع والنسيان. هي الأرض التي احتضنت آثار أقدام أجداده، وستظل تنبض بحبه وصموده، شاهدة على إرث لا ينقطع، جيلاً بعد جيل.

وكما شاهدنا ملحمة الشعب الفلسطيني يوم أمس، بكل ما تحمله من صمود وعزة، شاهدها نتن ياهو أيضًا، مدركًا أن مستقبله السياسي قد انهار، وأن رهانه على كسر إرادة الفلسطينيين كان وهمًا تبخر أمام صمودهم الأسطوري. وشاهدها رجل الأعمال ترامب، الذي أيقن أن صفقته لترحيل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر ليست سوى سراب يتلاشى أمام واقع شعب لا يساوم على أرضه، وقيادة أردنية ثابتة كالصخر. وكما صبر الغزيون على أرضهم رغم القهر والدمار، سنصبر نحن أيضًا على أرضنا، لأنها أرض الرباط التي لا تقبل الصفقات ولا تعرف التنازلات.


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير