أبو زينة يكتب: واقع الشرق الأوسط الإمبريالي..! (2)

{title}
أخبار الأردن -

  علاء الدين أبو زينة

منذ انسحاب الاستعمارات المباشرة من العالم العربي، لم يتمتع العرب بلحظة هدوء واحدة يلتقطون فيها أنفاسهم التي أرهقها الثقل الاستعماري –ناهيك عن التنفس بحرية والشروع في تأمل بيتهم وترميمه.

وبالإضافة إلى الخرائط التي سجنتهم في حدود قُطرية لم يُتح لهم الخروج منها، تركت بريطانيا في جوارهم مستعمرتها العدوانية الصهيونية لتنغص عيشهم وتعقد أي إمكانية للعثور على نفسهم القومية المستلبة والتحشيد عليها كعامل توحيد طبيعي خال من التعقيدات التي تحكم التكتلات والاتحادات التي تكافح للبحث عن مشتركات.

منذ ذلك الحين، وعلى مدى قرن تقريبًا، ظل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط يتشكل بفعل التدخلات الخارجية ولمصالح الخارجيين. وقد انتهجت القوى الغربية- وعلى رأسها الولايات المتحدة- إستراتيجيةً تستثمر في التناقضات والقواسم المشتركة بين مكونات الإقليم لإدامة حالة تسمح للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بلعب

دور الحكم والمتحكم صاحب الكلمة الأخيرة– حتمًا لخدمة مصالحه العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية.
للجزء الأكبر من القرن العشرين، استخدم الغرب الشرق الأوسط كجبهة متقدمة في وجه الاتحاد السوفياتي –أو ربما كان إحدى الساحات التي دارت عليها المواجهة. واقد اعتمدت الإستراتيجية الأميركية - الغربية على عدة ركائز

لاحتواء نفوذ المنافس بإحباط انتشار الفكر الشيوعي في المنطقة. وجاءت هذه الركائز كجزء من “إستراتيجية الاحتواء” التي صاغها جورج كينان وطُبقت عالميًا– وإنما بطابع خاص في الشرق الأوسط بالنظر إلى أهميته الجيوسياسية.

كان من هذه الركائز تشكيل التحالفات العسكرية ضد السوفيات. وكان “حلف بغداد” (1955) أحد أبرز الأدوات التي استخدمتها واشنطن. وضم الحلف عند تأسيسه كلًا من تركيا، العراق، إيران، باكستان، وبريطانيا، وكان يُنظر إليه على أنه “الناتو الشرق أوسطي” لكبح النفوذ السوفياتي. ولم تكن الولايات المتحدة عضوًا رسميًا في الحلف، لكنها كانت الداعم والمحرك الرئيسي. وقد تفكك الحلف بالتدريج حتى انهار رسميًا في العام 1979. وبالإضافة إلى احتواء النفوذ السوفياتي ومنع انتشار الشيوعية في الإقليم، هدف الحلف إلى حماية المصالح النفطية الغربية في الخليج وإيران، وتأمين الأنظمة الموالية للغرب ومناهضة الحركات القومية، وربط المنطقة بالنظام الدفاع الغربي. وكان الكيان الصهيوني، خاصة بعد العام 1967، خط الدفاع المتقدم ضد تمدد النفوذ السوفياتي، خاصة في الدول العربية التي كانت تدعمها موسكو، وخاصة مصر وسورية والعراق واليمن الجنوبي.

يلاحَظ من تكوين ذلك الحلف كيف تحول قدر كل واحد من دوله الأعضاء خلال هذه العقود. ويصعب الآن تصور اجتماع تركيا والعراق وإيران والباكستان وبريطانيا– وأميركا في تكتل واحد. لكنها واحدة من منتجات لعبة الفك والتركيب التي يبتكرها لاعب ماهر بقطع “الليغو” الشرق-أوسطية. وفي الحقيقة، نجحت الإستراتيجية في منع الاتحاد السوفياتي من تحقيق اختراق إستراتيجي كبير في المنطقة، على الرغم من النفوذ الذي حققته موسكو في بعض الفترات. وقد انهار الحلف العربي-السوفياتي تدريجياً بعد وفاة عبد الناصر (1970)، ثم بعد توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد  (1978)، التي كانت أخرجت مصر من ذلك المعسكر. وكان انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 إيذانًا بهيمنة أميركية مطلقة على الشرق الأوسط، مهّدت للتدخلات اللاحقة المباشرة مثل حرب الخليج (1991)، والغزو الأميركي للعراق (2003).

في الحقيقة، أنهى انهيار الاتحاد السوفياتي أي فرصة للدول العربية للاختيار بين بديلين. وقد حاولت بعض الدول الصديقة للسوفيات الاحتفاظ بطيف من ذواتها السابقة، لكنها أصبحت من دون ظهير عمليًا. وفي النهاية، أُفردت للتصفية باعتبارها “فلولًا” للاتحاد السوفياتي البائد، يصعب تقبلها في الترتيب الجيد.

باختصار المراحل، بلور اللاعب الوحيد من قطع “ليغو” الشرق الأوسط المتاحة للتفكيك والتركيب ثلاث بنى إقليمية محورية واضحة في العقود الأخيرة: الدول العربية؛ الكيان الصهيوني؛ وإيران. وهدف هذا الترتيب الإستراتيجي إلى تأمين الهيمنة بإدامة حالة من الاضطراب على أسس غير تقسيمة الموالين للشرق السوفياتي أو الغرب الإمبريالي، تحول دون بروز قوة إقليمية يمكنها تحدي النفوذ الغربي بقدر يُعتد به.

أصبح التدخل بيد طليقة في الشرق الأوسط بعد انهيار السوفيات يحدث بذريعة الحفاظ على التوازن، والأمن، والديمقراطية. لكنه كان في الحقيقة سعيًا إلى صنع التوازن من خلال الفوضى عن طريق إدارة ممنهجة

للخصومات الإقليمية وضمان عدم حلها. وفي العقود الأخيرة، كان العِداء التاريخي الظاهري بين الدول العربية والكيان الصهيوني، مقرونًا بالتوترات الطائفية والجيوسياسية بين العرب وإيران، يشكلان ساحة خصبة للتدخلات الغربية. وكان مبدأ هنري كيسنجر: “ليس لأميركا أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون، وإنما مصالح دائمة” جوهر السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، حيث تُصاغ التحالفات وتُفض وفقًا لحسابات إستراتيجية بحتة، لا مكان فيها لأي اعتبارات أخلاقية أو أيديولوجية.

لعبت هذه الإستراتيجية على استثمار المخاوف الوجودية والهواجس الأمنية لكل طرف إقليمي. من ناحية، وجدت الدول العربية، التي عانت تاريخيًا من التفكك والتبعية، نفسها غارقة مرة تلو المرة في صراعات تجهض كل إمكانية لوحدتها. والقضية الفلسطينية، التي تنطوي بنيويًا على إمكانية التجميع، أصبحت من أبرز نقاط الانقسام. ونتيجة

لعمل دؤوب ومحسوب وبارع، صنعت أميركا والغرب صدوعًا عمودية وأفقية لا تني تتسع– بين دول وجدت مصلحتها في التخلي عن القضية الفلسطينية، وأخرى تعارض المشروع الكامن وراء إنهاء القضية الفلسطينية؛ وبين النظام الرسمي العربي المتماشي مع المخططات التي تريد إخضاع المنطقة من بوابة فلسطين، والشعوب العربية الواعية الرافضة لهذه المخططات.

وعلى خلفية هذه التفاعلات، راوحت السياسة الأميركية بين الدعم المطلق للكيان، ومساعٍ شكلية خطابية لتهدئة الغضب العربي، الشعبي في الأساس. وبتبنّي خطابٍ داعمٍ لحل الدولتين، على سبيل المثال، مع ضمان التفوق العسكري للكيان، حافظت واشنطن على توازن هش يُبقي الصراع “العربي-الإسرائيلي”، كما يُدعى، قائمًا من دون حلولٍ حاسمة في متناولها في الأساس. 

والكيان يستفيد، بوصفه الحليف الإستراتيجي لأميركا والغرب، من الدعم العسكري والدبلوماسي الأميركي غير المشروط، مما يغذي مشاعر السخط العربية. لكن هذا الدعم نفسه يرسّخ لدى الكيان الشعور بعدم الأمان مع تعاظم السخط العربي، ويجعله يضاعف اعتماده على المظلة العسكرية والسياسية الغربية. وتثني هذه الدينامية الكيان عن السعي إلى مصالحةٍ شاملة مع محيطه، حيث يبرر استمرار الصراع استمرار الرعاية الغربية. 

أما الدور الإيراني في هذا المشهد، فعرض نموذجي للكيفية التي تطور بها القوى الغربية الاختلافات الطبيعية إلى انقسامات جوهرية وتعميقها بحيث تبدو غير قابلة للجسر. منذ الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979، عملت الولايات المتحدة، والببغاء الصهيوني، بإصرار سوريالي أحيانًا، على تقديم إيران كـ”دولة مارقة” تكاد تكون البديل المكافئ للاتحاد السوفياتي من حيث القوة والأدوات والنفوذ. وسرعان من انضم آخرون إلى جوقة تضخيم المخاوف العربية المتصورة من التمدد الفارسي والشيعي. واستخدمت الولايات المتحدة هذه المخاوف العربية لصرف الانتباه عن تأثيرها الأكثر ضررًا بما لا يقاس، إلى جانب كيانها الوكيل.

وهكذا، نشرت قواعدها العسكرية في مختلف أنحاء المنطقة كضامنٍ أمني “لا غنى عنه”. وغذى هذا الاضطراب سوق السلاح، حيث أنفق العرب الأغنياء مليارات الدولارات على التسلّح الغربي مدفوعين بالخوف المتصور من التهديد الإيراني. وتم توظيف الملف النووي الإيراني كأداةٍ في هذه اللعبة، حيث راوحت السياسة الغربية بين الانخراط الدبلوماسي، كما في “الاتفاق النووي الإيراني”، وبين فرض العقوبات القاسية لإبقاء إيران في حالةٍ من العزلة الاقتصادية والسياسية في إقليمها الطبيعي. وبقي الشرق الأوسط الممزق العاجز عن التكتل السياسي والاقتصادي بعيدًا عن تشكيل أي تهديدٍ جدي للهيمنة الغربية. يا له من وضع مثالي لا يحسُن تغييره!


 

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية