طهبوب يكتب: موسم العودة إلى الشمال

عامر طهبوب
تعلّم الفلسطيني من أخطاء أجداده، وربما خطاياهم، وتعلم أن لا يسير على خطاهم، وأن لا يقع في أفخاخ المحتلين، وتعلم الجغرافيا جيداً، كما تعلم من التاريخ، بل أصبح خبيراً في فهم الجغرافيا المتحركة والجغرافيا الثابتة، وأن الجغرافيا الثابتة الوحيدة في عقله هي جغرافيا أرضه، ولعله لا يكترث للبيت، وإنما للأرض التي بني عليها البيت، والبيت يبنى ثم يهدم، ثم يبنى ثانية ثم يهدم، ويستبدل بخيمة أو بيت من طين، كل شئ قابل للتعويض، وكل شئ يمكن استرداده، إلا الأرض.
والفلسطيني خبير في ثقافة الخسارة، وسرقة مقدراته، حياته سلسلة من الخسارات، وتقبل بإيمان صلب وصبر مدهش أن يخسر ولده أو ابنته، أو يخسر كل أفراد أسرته، وأن يخسر بيته، ومحتويات بيته من أثاث وطعام وشراب، وأن يخسر المخبز والخبز والدقيق، وأن يتحول بيته إلى ركام، لكنه لا يقبل خسارة الأرض التي يغطيها الركام، وكل ما فعلته إسرائيل في قطاع غزة استهدف القشرة الأرضية، والفلسطيني يقبل بخسارة القشور طالما أن رحم الأرض ما زال بخير، والأرض عند الفلسطيني مسألة حياة يموت من أجلها.
والفلسطيني اليوم يكتب سردية لا يجيد كتابتها إلا الفلسطيني، ويعود بلا شيء، لا يحمل معه شيئاً، يترك المدمر إلى المدمر، لكنه يعرف ماذا يفعل، يرسم طريق العودة، الفلسطيني اليوم يعود، وهو يعرف معنى العودة، وطعم العودة، ويرسم خرائط العودة من الدمار إلى الدمار، وهو لم يعد يراه، لم يعد يرى الركام الرمادي، لأن عيونه منصبة على ما تحت الركام لا الركام؛ الأرض الأرض.
كل المسألة في حياة الفلسطيني تتعلق بالأرض، والأرض سبب معاناته، ولجوئه، ونزوحه، والفقد رفيق حياته وحياة أجداده، ويعي الفلسطيني الكي، ومعنى «كي الوعي»، وهو غير قابل للكي في وعيه، ولم يعد من الممكن ترويض وعيه، لأنه يعرف كيف يكوي الكي، ولا يمكن تغيير بوصلته أو تغييبها، والبوصلة في حياته موجودة في رأسه لا في يده، ولا يمكن أبداً الوصول إليها.
ولذلك كله وأكثر، لا خوف على الأردن من فكرة التهجير، لا من غزة، ولا من الضفة الغربية للنهر المقدس، فالفلسطيني لن يتزحزح عن أرضه ولن يهاجر، ولا يقبل الهجرة، لكنه يعشق العودة، وتدغدغ وجدانه فكرة العودة، ولن يقبل بالجنة بدلاً عن وطنه، وأما الأردني فهو حارس أبدي لضفة النهر على الجهة الشرقية، والأردن لن يكون يوماً لقمة أو حقيبة، غير قابل للسرقة ولا الاختطاف، وغير قابل للطأطأة، وقد عبر السنوات الأربع العجاف في زمن «ترمب الأول»، ورفض الانحناء للإملاءات الخارجية التي تمس جوهر القضية الفلسطينية، أو تمس كيانه، وكلنا يتذكر كيف استطاع الأردن أن لا يسمح بالتمرير على حساب مبادئه الوطنية ومواقفه الثابتة إلى جانب أهل فلسطين وقضيتهم.
ما قدمه الأردن الرسمي والشعبي في حرب الإبادة على غزة كان الأكبر على الساحتين العربية والدولية، وقاد الملك بنفسه قوافل المساعدات، وذهب الأطباء لخدمة الجرحى والمرضى في ساحة الحرب هناك في غزة وخان يونس، ولا ينتظر الأردن شكراً على كل ذلك من أحد، فالمسألة أن أهل الأردن هم الأقرب والأحن على أشقائهم في فلسطين من أي شعب آخر، ولكن الأردن هو الأردن، بأرضه، وشعبه، وعرشه، وحدوده، وسمائه، ونهره، وهو غير قابل للتآمر، ولا للتآمر عليه، وأقولها ثانية؛ غير قابل للطأطأة.