البراري يكتب: عودة أوديسيوس إلى رمال غزة التي لا تعرف الهزيمة

حسن البراري
ما أجمل مشهد عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم التي نزحوا عنها قسرًا، كأنهم الأبطال في رواية تحمل بين طياتها تاريخًا من التشرد والصمود. فمنظر مئات الاف من الفلسطينيين - الذين شقوا رحلة العودة، مستحضرين أوديسيوس في عودته المظفرة من طروادة - يعكس فشل المخططات الاستيطانية التي لطالما سعت للإحلال مكان أصحاب الأرض وسكانها الأصليين.
هذا المشهد يقابله مشهد الجنود الصهاينة الذين انسكبت دموعهم على وجوههم بحرقة، فلا هم شيدوا استيطانهم المزعوم ولا أصحاب الأرض رحلوا من غير عودة. فهؤلاء الجنود المتدينين الذين تربوا في خُطبٍ استعمارية، كانوا يعتقدون أن هذه الأرض قد أصبحت لهم بلا منازع، إلا أن الحقيقة كانت على موعدٍ مع المعجزة. فعاد الفلسطينيون، بدمائهم وأحلامهم، ليكتبوا فصلا جديدا بأقدام لا تنكسر وأرواح لا تهزم.
لو كان على قيد الحياة أولئك الذين وضعوا أسس فكرة التهجير والاستيطان، مثل أبراهام كوك في مدرسة مركاز هراف وتلاميذه ومؤسسي حركة غوش ايمونيم مثل الحنان بورات وموشيه ليفنبرغ ومن ساروا على نهجه، لرأوا بأم أعينهم كيف أن مشهد عودة الفلسطينيين هذا يفوق كل الروايات "البطولية" التي حاولت أن تزين تاريخ قدوم اليهود إلى فلسطين في رواية "الخروج" للروائي اليهودي الأمريكية ليون يوريس. لكن الحقيقة، كما هو الحال دائمًا، أقوى من الأساطير. العودة ليست مجرد إعادة تكوين المكان، بل هي تكريس لعزم لا يلين وإرادة قوية لا تعرف الانكسار. هذه العودة هي فشل لأولئك الذين اعتقدوا أن الأرض يمكن أن تُنسى أو تُستبدل.
يحمل مشهد العودة الفلسطيني إلى الأرض بعد خمسة عشر شهرا من القهر والتشرد في طياته معاني عظيمة تتجاوز مجرد العودة المادية إلى البيوت. هذه العودة هي ثمرة صمود طويل دفع الشعب الفلسطيني ثمنه باهظًا من دماء أبنائه، ومن تضحيات أمهات فقدن فلذات أكبادهن، ومن آلام لا تُحتسب. ومع هذا الصمود، الذي تفجر اليوم في مشهد العودة، تبرز مسؤولية تاريخية فلسطينية لا بد من البناء عليها حتى تكون العودة بداية لمرحلة جديدة من الاستمرار والنهوض. فلا يمكن أن تقتصر العودة على استعادة الأراضي فقط، بل يجب أن تكون دافعًا لإعادة بناء الإنسان الفلسطيني، وتعزيز وحدته، وتطوير هويته الثقافية والسياسية، وبناء مؤسسات قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. هذه العودة هي بداية جديدة في تاريخ طويل من الكفاح. ويتطلب الأمر الآن تعزيز الوحدة والتماسك الفلسطيني، فالمسؤولية الآن تتطلب أن نبني على هذه اللحظة الثمينة لبناء وطن يليق بتضحيات الشعب ويلبي طموحات الأجيال القادمة.
مرة ثانية، جسدت هذه العودة حقيقة أن الغرباء سيبقون غرباء وهم كما قال محمود درويش "عابرون في كلام عابر".
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف.. ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار.. ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى.. ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز.. ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء