سامح يكتب: لورنس وغالاوي... بين خدعةٍ وأخرى

خالد سامح
لست مؤمناً بنظرية «التاريخ يعيد نفسه»، تلك التي آمن وروج لها فلاسفة اليونان كحقيقة مطلقة قبل أكثر من ألفي عام، فالتاريخ بالنسبة لي يسير بخط مستقيم وليس دائرياً كما يتوهم الكثيرون، في محطاته المتعددة تتشابه الوجوه والأحداث والبصمات مع اختلاف الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية وما تحمل من تغييرات على صُعد انسانية مختلفة.
حكاية «لورنس العرب» و»جورج غالاوي» -اللذان إدعى كل منهما دفاعه عن قضايا الحرية والكرامة- ربما تصلح نموذجاً على ما ذكرته في استهلالي لتلك المقالة، على الرغم من الفارق الزمني والظرفي وبالتأكيد فارق الخلفيات السياسية بين الحالتين:
لورنس الضابط والمستشرق البريطاني الذي خدم من أجل مجد امبراطورية بلاده، وأسهم بصورة كبيرة في مد جسور «التعاون» بينها وبين الأمة العربية حين كانت الأخيرة ترنو مع انبلاج فجر القرن العشرين للاستقلال والتخلص من نير حكم الدولة العثمانية، ليكتشف العرب - بعد فوات الأوان كالعادة- أن الرجل خدعهم و»استخدمهم» فقط لتحقيق مآرب لندن في مد سيطرتها وتثبيت وجودها في تلك البقعة الحساسة من العالم، فتعيد رسم المنطقة بجرة «قلم تشرشل» وتمنح وعداً للحركة الصهيونية بـ»وطن قومي» لليهود في فلسطين ( وحكاية هذا اللورنس تطول، فيستحيل اختصار دراميتها المثيرة في ذلك المقال) ...أما مواطنه السياسي اليساري جورج غالاوي فقد بزغ نجمه في سماء العرب عند أفول القرن العشرين، ومع بدايات الألفية بات الرجل بين ليلة وضحاها «أيقونة» الدفاع عن قضايا العرب ونجم فضائيات عربية ذات خطاب ديماغوجي شعبوي لم يخرج بعد من مرحلة «تجوع يا سمك» الستينية، ولغالاوي هذا مذهبه الخاص في الدفاع عن العرب، يحصر فيه «رسالته النبيلة» في ذات الخطاب الشعبوي للأنظمة العربية التي رفعت شعارات «تدمير اسرائيل» دون أن توفر لشعوبها أدنى بديهيات الحياة الكريمة، فتماهى خطابه معها وبات بوقاً لها، ولم يرَ في جرائمها بحق شعوبها ما يتناقض مع رسالته المعلنة في الدفاع عن قيم الحرية والعدالة ومناهضة الإرث الاستعماري!، ولنضف إلى ذلك دفاعه عن سياسات نظام الملالي في المنطقة وميليشياته الطائفية التي نكلت بملايين العرب في العراق ولبنان وسوريا واليمن وحاولت التسلل لنشر الفوضى في العديد من الدول العربية.
المفارقة التاريخية أن لورنس وغالاوي..كلاهما تراجعا وأعلنا أسفهما عمّا بدر منهما، الأول اعترف في كتابه الشهير «أعمدة الحكمة السبعة» أنه كان من أدوات المؤامرة الاستعمارية في منطقتنا العربية، وقد أشيع أن الرجل مر بفترة تأنيب ضمير ومراجعة قاسية خلال السنوات الأخيرة من حياته لكل ما فعله في منطقتنا والمهمة التي أوكلت إليه ( وأداها باقتدار) على مدى سنوات طويلة، أما غالاوي فقد أعرب بعد سقوط نظام «الممانعة والمقاومة» في دمشق عن أسفه ( على العرب) وليس ( للعرب)، فحضرة «المناضل» لم يتوقع من السوريين الخروج عن طاعة الزعيم الأوحد «قاهر اسرائيل ومحرر الجولان لا محالة « وكسر زجاجة «عسل الأوهام» التي أغرقها فيهم نظام العائلة الأسدية على مدى 54 عاماً، ذاك بالنسبة له خيانة ما بعدها خيانه، وهذا فحوى تصريحه الذي تابعته مؤخراً للإعلام، وفيه عبّر عن يأسه البالغ من العرب وندمه على إضاعة كل تلك السنوات من عمره في «الدفاع عن حقوقهم»!.
السيدان الانكليزيان خدعا العرب و»الخداع» هو عنوان قصتيهما وإن تباينت التفاصيل، وإن لم يستيقظ العرب، فيميزوا بين من يتاجر بقضاياهم ومن يريد لهم فعلاً الخير والحرية والكرامة، فإن سلسلة الخدعات الكبرى ستتوالى إلى أجل غير معلوم.