د. زيد حمزة يكتب: أميركا.. ومنظمة الصحة العالمية

لقد تفاوت اهتمام المصادر الإعلامية بالأمر التنفيذي للرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية فهو ليس مفاجئاً ولا جديد فيه، ولطالما هدّد به منذ رئاسته الماضية حين كان يخاطبها بتعالٍ واستخفاف كأنها ادارة صغيرة في حكومته، وقبل ذلك بزمان طويل لطالما اشتهرت علاقة حكومة الولايات المتحدة الأميركية نفسها مع معظم المنظمات الدولية بانها غير سوية ومتذبذبة حد التوتر والتهديد بالانسحاب منها ومعاقبتها بقطع الدعم المادي عنها كلما لم يعجبها قرارٌ لا ترغب في تنفيذه، أو موقفٌ لا يتفق مع سياستها، حدث هذا مثلا في ?نظمة اليونسكو اثناء ولاية مديرها العام السابق السنغالي احمدو مختار مْبو الذي أمعنت في معاداته بحجة انه منحاز اكثر من اللازم لدول العالم الثالث! وحدث كذلك مع منظمة اخرى كانت لي بها علاقة مباشرة هي منظمة الصحة العالمية، فحسب ذاكرتي وبعد أن انتُخبت في ١٩٨٦ رئيسا لهيئتها العامة لذلك العام، وألقى بعض الزملاء من رؤساء الوفود العربية كلماتهم متجاوزين الوقت المحدد لهم ببضع دقائق (يتيح النظام للرئيس استثنائيا غضّ النظر عنها) وذلك بسبب المبالغة في الحديث المطوّل عن المنجزات الصحية الخارقة في بلادهم، ومع ذلك طلبوا مع?نات مالية من المنظمة! ثم أكملوا مواويل النفاق فنسبوا تلك النجاحات الى عبقرية رؤسائهم الملهمين! وعندما جاء دور خطاب المندوب الأميركي لم يغضبني بل أخجلني بسخريته مما قالوه وانا أُقرّه على تهافت بعضها، رغم انه كان يدرك سلفاً كنه ودوافع خطاباتهم وحجم النفاق فيها ومدى قربها او بعدها عن الديمقراطية وعلاقتها بالفساد المستشري تحت انف دولته الكبرى، وربما كان لها ضلع فيه! كما جاء تهديده يومها بالانسحاب من المنظمة لهذه الاسباب البسيطة العابرة وفي إطار الأنظمة الإدارية والمالية مجرد مسرحية غير مضحكة! لكن ما ساءني فعلا? فهو تهجمه على مبادئ الرعاية الصحية الاولية التي تتمسك بها المنظمة منذ اعلان ألما آتا في كازخستان عام ١٩٧٨ اذ قال انها لا تصلح الا للدول المتخلفة والفقيرة! وقد هدّأ من روْعي يومها زميلي في الوفد الاردني الدكتور هاني عويس حين استمهلني حتى اسمع الخطاب المنتظر للمدير العام للمنظمة الدكتور هافدنماهلر (من الدانمرك) الذي اشتهر بشجاعته وصراحته في خطابه السنوي الذي كانت الوفود العالمية في العادة تنتظره بلهفة كبيرة، ولكم كانت سعادتي به بالغة ونحن معا على منصة الرئاسة وقد امتلأت القاعة الكبيرة عن آخرها حينما راح يجل?ل بصوت جهوري وبلغة انجليزية بليغة (وإن بلكنة دنماركية)، مدافعاً عن المنظمة ضد تدخل الدول الغنية الكبرى في شؤونها وواصفًا إياها بالتماسيح المفترسة، ويأتي بالأدلة على محاولة بعضها الهيمنة على سياساتها وقراراتها لصالح جهات مستفيدة اخرى بينها شركات أدوية عالمية عملاقة، بما يتنافى مع الدور الانساني العظيم الذي تضطلع به نحو الجميع بعدالة ودونما اي تمييز، وكنا قد أُطلعنا خلال العام المنصرم من مصادر مستقلة على المخالفات الأخلاقية التي ارتكبتها احداها في حق المرضى الفقراء الذين استخدمتهم في دولة أفريقية كفئران تجار? حد وفاة العديد منهم، ثم أفلتت من العقاب باستخدام القوانين الأميركية التي تستبدل احكام السجن بالغرامات المالية ولديها من ارباحها الطائلة ما يجعلها تسخر من تسديد حفنة دولارات مقابل كل روح إفريقية تزهق!
والآن وللتعرف على المشهد المأساوي الراهن بعد التأكد من صدور الأمر التنفيذي للرئيس دونالد ترامب بخروج اميركا من منظمة الصحة العالمية كان لا بد من رجوعي لمصدر اعلامي أميركي مستقل وموثوق اعتمد عليه في العادة هو القناة الاخبارية ديموكراسي ناو التي تبث من نيويورك، لأطلع على مقابلة اجرتها مديرتها إيمي غودمان ومساعدتها نرمين شيخ مع العالم الاميركي الكبير لورانس غوستن استاذ قانون الصحة في جامعة جورج تاون الذي يعمل مع منظمة الصحة العالمية منذ أربعين عاما مديرا لمركز تعاون قانون الصحة العامة وحقوق الإنسان، الذي قال ?ألم وحرقة ان الامر التنفيذي يهدد البشرية بانهيار برامج عالمية كبرى في المنظمة مثل مكافحة التدرن الرئوي (السل) والايدز وغيرهما، وقد وصفه بالكارثي وبانه خطأ قاتل موجه للمصالح الوطنية الاميركية، ويشكل عدواناً غادراً على العلم نفسه وعلى الصحة العامة ومؤسساتها، وسوف يؤدي مع الوقت الى أن تتخلف اميركا كثيرا في مضمار الوقاية من الأمراض ومنعها، ما يضعها والعالم بأسره تحت رحمة اي جائحة قادمة (ونحن نتذكر مواقف ترامب الهزلية اثناء جائحة كورونا وكيف طرد فاوتشي من وظيفته!)..وذكّر غوستن اثناء المقابلة بتقدير كبير ان للمن?مة شبكة واسعة جداً من المختبرات رفيعة المستوى والعلماء الخبراء في الصحة العامة، ومن الوكالات المتخصصة التي تصدر كمّاً هائلاً من المعلومات والتقارير العلمية التي تعتمد عليها وزارات الصحة في جميع دول العالم وعلى رأسها مؤسسات أميركية كبرى مثل الـ CDC والـ NIHوالـ FDA، ومن أبرز الامثلة تطوير المطاعيم سنوياً ضد الامراض والاوبئة كالأنفلونزا الذي لا يمكن ان يتم لولا المعلومات المتطورة التي تأتي من تلك المنظمة العظيمة.
وبعد.. هل هناك من لا يزال يصدق ان سبب هذا الانسحاب الكارثي التأثير على اميركا والعالم هو كما يردد ترامب نفسه ببساطة «أن الصين ذات المليار وربع نسمة تدفع للمنظمة الدولية فقط ٣٩ مليون دولار سنويا، في حين ان الولايات المتحدة ذات الـ ٣٢٥ مليون نسمة تدفع ٥٠٠ مليون دولار»..؟!