الشريف يكتب: عشرة دروس من غزة
إسماعيل الشريف
«اعتبر بمن مضى قبلك، ولا تكن عبرةً لمن يأتي بعدك»، أرسطو.
توقفت حرب الإبادة في غزة - ولو إلى حين - وتركت وراءها دروسًا عميقة ومؤثرة يمكن استخلاصها من معاناة الشعب الفلسطيني، سأذكر عشرة منها:
1 - كشفت هذه الحرب النقاب عن حقيقة الصراع بشكل واضح. فللمرة الأولى، تابع العالم بأسره فظائع الاحتلال الصهيوني بالصوت والصورة في بثّ مباشر، مما أدى إلى تفاعل شعبي عالمي غير مسبوق برفض واستنكار ودعم للقضية الفلسطينية. ولأول مرة، أدرك كثير من الناس بشاعة الصهاينة وحقيقة الصراع الفلسطيني-الصهيوني. أجمعت مراكز الدراسات على أن الشعوب في العالم تطالب بوقف المجازر، وخرجت الجماهير إلى الشوارع تطالب بذلك. ومع ذلك، رغم التعاطف الشعبي الواسع والمظاهرات المنددة بالمجازر، لم يلتفت الساسة والنخب السياسية، حتى في الدول التي تدّعي الديمقراطية، إلى مطالب شعوبها، وضربت بالرأي العام عُرض الحائط، مؤكدة عمق الفجوة بين إرادة الشعوب والقرارات السياسية.
2 - برهن أهل غزة على مستوى استثنائي من الصمود والإيثار، فتحملوا معاناة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلًا. تعرضوا لإبادة ومجازر، واستُهدفت بنيتهم التحتية، وقُطع عنهم الماء والغذاء والدواء، وذُبحت عائلات بأكملها. ورغم التدمير الشامل والمعاناة القاسية، عندما توقفت الحرب، احتفلوا بالحياة بإصرار يندر مثيله، لا تجد شعبًا آخر يحتفل بالحياة كما يفعل أهل غزة، وهم أنفسهم الذين يقدّمون حياتهم رخيصة في سبيل قضيتهم. إن قدرتهم على الصمود تعكس عزيمة استثنائية لا تراها في أي شعب آخر، وأكدوا للعالم أن هويتهم وإرادتهم أقوى من آلة الدمار، وأن المقاومة ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية.
3 - أثبت العالم أنه أصبح قرية صغيرة، وانكشفت هشاشة المنظومة العربية والإسلامية بوضوح،
لقد كشفت الأحداث الأخيرة عن واقع مؤلم في العالم الإسلامي: غياب جوهري للدور الفعال والمؤثر في لحظات الأزمات القصوى.
4 - لن تُحل القضية الفلسطينية دون معالجة جذرية عميقة للصراع، لا يمكن اختزالها في حلول ترقيعية أو مؤقتة، فالخيارات الجوهرية تنحصر في مسارين اثنين: إما إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة تضمن كامل الحقوق، أو تحويل الكيان الصهيوني المارق إلى دولة ديمقراطية علمانية تكفل المساواة التامة بين اليهود والفلسطينيين، مع جبر الضرر التاريخي وتعويض الفلسطينيين عن عقود من الظلم والاضطهاد.
لقد أثبتت التجربة التاريخية، بعد أكثر من مئة عام من الصراع، فشل المشروع الصهيوني في طمس الهوية الفلسطينية. وفي المقابل، أكد الفلسطينيون - جيلًا بعد جيل - قدرتهم الاستثنائية على المقاومة والصمود. فكلما مضت السنون، ازدادت إرادتهم قوةً وصلابة، وتأكدت حقيقة أنهم شعب غير قابل للإبادة أو الفناء.
لذا، فإن المعادلة باتت واضحة: لا مفر من الاعتراف بمأساة الفلسطينيين، وتعويضهم، وإيجاد حل عادل ومستدام يضمن كرامتهم وحقوقهم المشروعة.
5- لقد كشفت الحرب الأخيرة عن معلم جديد في مستقبل الصراعات العسكرية: المعركة التكنولوجية. فللمرة الأولى، شهد العالم توظيفًا مكثفًا للتقنيات المتطورة كالذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة والقنابل الذكية. ومع ذلك، ظهرت حقيقة جوهرية مفادها أن الإرادة الإنسانية تبقى القوة العليا التي لا يمكن اختراقها أو إخضاعها مهما بلغت درجة التسلح والتكنولوجيا.
6- في مواجهة الإعلام التقليدي المُموَّه، برزت منصات التواصل الاجتماعي كأداة قوية لكشف الحقائق ونشر روايات المعاناة، فرغم سيطرة الرواية الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية، نجحت هذه المنصات في اختراق حواجز التعتيم وفضح الممارسات الوحشية، وهو ما يؤكد الحاجة الملحة لبناء إعلام فلسطيني عالمي مهني وموضوعي قادر على نقل الحقيقة بموضوعية وتأثير عميق.
7- الانقسام الداخلي الفلسطيني يمثل جرحًا نازفًا، يُضعف الموقف الوطني ويمنح الاحتلال فرصًا للتلاعب والاستغلال. لذا فإن تحقيق الوحدة الفلسطينية يُعد خطوة استراتيجية حاسمة لمواجهة التحديات المصيرية، وتحصين الموقف الوطني في وجه الضغوط والأخطار.
8- أثبتت الأحداث الأخيرة إفلاس المنظمات الدولية وعجزها الصارخ عن حماية حقوق الإنسان. فالأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية سقطت في امتحان الإنسانية، مما يستدعي إصلاحًا جذريًّا يعيد بناء مصداقيتها. كما انكشفت زيف الشعارات الغربية حول الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وسقطت هذه المبادئ في وحل غزة، وذابت أمام هول الممارسات الوحشية.
9- على الرغم من المأساة الإنسانية الكبيرة التي تعرض لها سكان غزة والدمار الهائل، لاحظنا وعيًا استثنائيًّا كبيرًا يعود إلى عدة أسباب، منها الحس الديني المرتفع ومستوى التعليم المتميز. وهذا يدل على أن التعليم ببعديه الروحي والدنيوي يعدّ من أهم أسباب تعزيز قدرة الشعب على الصمود، فقد شكل منظومة دفاع أساسية، مكّنهم من امتصاص الصدمات والحفاظ على هويتهم.
10- وأخيرًا، تحول الصمود من مفهوم نظري إلى استراتيجية حية، حيث أثبت الغزيون أنه أكثر من مجرد خيار، بل هو نهج وجودي وطريق للمقاومة، وقد تحول هذا الصمود إلى مصدر إلهام عالمي يحرك ضمائر الأحرار، ودافع يوحد إرادات التضامن.