المشهد السوري: بانوراما موجزة..! (2)

{title}
أخبار الأردن -

  علاء الدين أبو زينة

في مقابل وجهة النظر التي أيدت عسكرة الانتفاضة الشعبية السورية، التي استكشفها الجزء الأول من هذه البانوراما، ثمة الذين رأوا في هذه العسكرة خطأ فادحًا يجلب لسورية والسوريين عواقب غير محمودة يصعب التراجع عنها. وبافتراض أن المراقبين الغربيين هم "خارجيون"، بعيدون نسبيًا عن المشهد بحيث يرونه بمنظور أوسع وبتجرد من عوامل الاستقطاب العاطفية في الجدالات العربية، هذه عينة من التعليقات الغربية التي حذرت من العسكرة:

في كتابه "عصر الجهاد" The Age of Jihad (2016)، كتب الكاتب والصحفي البريطاني، باتريك كوبيرن: "كان تسليح الانتفاضة السورية أشبه بصب الزيت على النار. بدلاً من تقديم الدعم لحل سياسي، شجعت القوى الإقليمية والدولية العنف المسلح، ما أدى إلى تدمير البلاد وجعلها ميداناً للصراعات الخارجية."
وكتب ريتشارد هاس، رئيس "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي المعروف، في مقال نشرته في العام 2013 مجلة "فورين أفيرز": "كان تحويل الاحتجاجات السورية من حراك سلمي إلى تمرد مسلح خطأ استراتيجيًا. فقد أعطى للنظام مبررًا لاستخدام القوة المفرطة، وجلب لاعبين خارجيين يركزون على مصالحهم الخاصة بدلاً من دعم تطلعات الشعب السوري."
وكتب تشارلز ليستر -الباحث في "مركز بروكنغز"، في كتابه "الجهاد السوري"The Syrian Jihad ، (2015): "لم يؤد تسليح الانتفاضة إلى تقويض النظام السوري كما كان يأمل البعض، بل ساهم في تعزيز روايته عن أنه يواجه مؤامرة إرهابية دولية. لقد أفضى هذا القرار إلى تعقيد الانتفاضة السلمية وتحويلها إلى حرب إقليمية بالوكالة."
وفي كتابه "إدارة الوحشية" The Management of Savagery، (2019)، كتب الصحفي والكاتب الأميركي ماكس بلومنتال: "لم يكن الدعم الخارجي لتسليح الجماعات المتمردة في سورية لمصلحة الشعب السوري، بل كان لعبة جيوسياسية مدفوعة بالمصالح الأجنبية التي زادت من معاناة المدنيين وأسهمت في تفكيك البلاد."
وفي مقابلة أجريت معه في العام 2016، قال الفيلسوف والناقد السياسي الأميركي المعروف، نعوم تشومسكي: "ساهم التسليح في عسكرة الصراع (السوري) بشكل غير ضروري، وأدى إلى تكثيف الدمار والمآسي التي كان يمكن تفاديها لو أن الجهود تركزت على الحلول السياسية والسلمية."
وكما توقع أصحاب هذا الرأي، ساهم تسليح الانتفاضة السورية بوضوح في تفكك النسيج الاجتماعي السوري وإطالة أمد الصراع وتعقيده بسبب تورط فصائل متباينة الأيديولوجيات والولاءات بطريقة جعلت من تحقيق وحدة وطنية أو رؤية مشتركة مسعى بالغ الصعوبة –إن لم يلامس المستحيل. كما أدى إلى تدمير البنية التحتية للبلد، ونزوح الملايين، وتعميق المعاناة الإنسانية. ولو بقي الحراك سلميًا، كما يرى منتقدو العسكرة، ربما كانت احتمالات تحقيق تغيير تدريجي أو إصلاح يعتد به ستحظى بفرصة أكبر، مع تقليل فرص التدخل الخارجي وإبقاء المطالب الشعبية في صدارة المشهد بدلاً من ضياعها في صخب الحرب وفوضى التسلح.
دام هذا الاستقطاب حول "السلمية" و"العسكرة" طوال فترة الصراع. وعلى الطريق، تغيرت قراءة بعض المراقبين للحدث السوري مع تطور الأحداث. على سبيل المثال، وقف الكثير من المثقفين العرب وغيرهم مع حراك الشعب السوري السلمي في بداية الانتفاضة، وانتقدوا بشدة رد الفعل العنيف للنظام على الاحتجاجات. لكن هذا الموقف تغيّر مع دخول أطراف ليست ديمقراطية بطبيعتها وليست محبة للشعب السوري وحريته بشكل خاص إلى حومة الصراع -غالبًا بنية تحقيق أي شيء إلا مصالح الشعب السوري، وتخريب سورية كبلد ومقدرات وتاريخ. وهناك في المقابل أولئك الذين أيدوا النظام في البداية، ثم انتقدوا طريقة إدارته للأزمة وأفزعتهم وحشية الأجهزة الأمنية وقمعها المفرط للمدنيين السوريين –كثيرًا من دون تمييز. 
لكن الاستقطاب، بغض النظر عن تبديل الاصطفافات، ظل قائمًا بحدة بين فريقين. من ناحية، رأى منتقدو العسكرة أن إسقاط النظام لن يحقق الاستقرار أو العدالة اللذين تصورهما أولئك الذين حملوا السلاح أو شجعوا عليه. بدلًا من ذلك، كما يقولون، أصبحت سورية بالعسكرة مشهدًا فوضويًا من الفصائل المتنافسة، والاحتلالات الأجنبية، والحروب بالوكالة. وقد انخرطت في الصراع مجموعات مختلفة، بما فيها المنظمات الدينية المتطرفة تاريخيًا، والفصائل الكردية، والميليشيات المدعومة من تركيا والجهات الفاعلة الدولية والإقليمية المتناقضة بخلاف ذلك. ولكل من هذه القوى أجندتها التي غالبا ما تعطي الأولوية لمصالح جيوسياسية خارجية على مصلحة السوريين. والنتيجة؟ بلد مجزأ تحتل بعضه قوى أجنبية، وتسيطر على بعضه قوى محلية هشة، مع تعمق الانهيار الاقتصادي والأزمة الإنسانية المستمرة. ومن هذا المنظور، لم تفشل عسكرة الانتفاضة في بناء أسس لسورية أفضل فحسب، بل أطلقت العنان لقوى لا يجمعها شيء في الحقيقة، والتي ستديم صراعاتها الفوضى في البلد لسنوات -حتى لو سقط النظام.
ومن ناحية أخرى، رأى أنصار إسقاط الأسد أن سقوط النظام، على الرغم من الاضطرابات التي يمكن أن تعقبه، هو خطوة ضرورية نحو سورية أكثر حرية. وجادلوا بأن بقاء الأسد سيضمن استمرار عقود من الاستبداد الوحشي والقمع المنهجي وخنق أي إمكانية للتغيير السياسي. وبالنسبة لهم، لن يكون تفتت البلد وكثرة المتدخلين الفصل الأخير وإنما مرحلة انتقالية، وإن كانت مؤلمة ومكلفة. ورأى البعض منهم أن وجود مراكز قوى متنوعة ربما يخلق فرصًا للحكم الشعبي والحكم الذاتي المحلي وظهور رؤى بديلة لمستقبل سورية -حتى لو كانت مشوهة حاليًا بالتدخل الخارجي والتنافس الداخلي. ورأوا أنه في حين أن الطريق إلى الأمام يعوزه اليقين، فإن إفلات قبضة الأسد الخانقة ستقدم فرصة -مهما كانت ضئيلة- لإعادة تصور سورية كشيء آخر غير الدكتاتورية. باختصار، كانت فكرة هذا الفريق هو أنه ليس بالإمكان أن يأتي أي شيء أسوأ مما كان.
ولم ينته الاستقطاب حتى بعد سقوط النظام السوري. ما يزال أنصار العسكرة يتهمون أنصار السلمية بأنهم "شبيحة" الأسد وعملاء إيران الذين أيدوا ذبح السوريين. وما يزال أنصار السلمية يتهمون جماعة العسكرة بأنهم عملاء أميركا والكيان الصهيوني وتركيا وبقية المتدخلين الإقليميين، وبأنهم أيدوا إسقاط سورية نفسها وإعدام مقدّراتها وتوريطها في مستنقع يصعب الفكاك منه. ومع أن هؤلاء وأولئك –خاصة غير السوريين- لم ولن يؤثروا في الحدث على الأرض، فإنهم ينطوون على قدر مفرط من التعصب في النقاش يصل أحيانًا إلى التخوين، أو التشاتم الموتور بين المحتفلين والمتشائمين.
مع ذلك، يتخذ الاستقطاب المحيط بالصراع السوري بعدًا جديدًا بعد سقوط النظام عمليًا، ويتحول النقاش بعيدًا عما إذا كانت الانتفاضة وعسكرتها مبررة أم لا، ونحو تقدير عواقب انهيار النظام وديناميات القوى التي تعمل الآن في سورية.
الآن، لم تعد النتيجة الراهنة تحتمل الأحكام التبسيطية حول ما إذا كانت العسكرة صحيحة أم خاطئة. لم تعد مأساة سورية تتعلق بتكلفة الانتفاضة فحسب، وإنما تتجسد في الفشل الجماعي -للجهات الفاعلة الداخلية والخارجية على حد سواء- في بناء بديل حقيقي ومتبلور قابل للتطبيق لنظام الأسد. وسوف يحتاج المضي قدُمًا إلى اجتراح طرق لمعالجة مظالم الماضي وشق طريق إلى المستقبل يعطي الأولوية للسيادة والعدالة واحتياجات الشعب السوري فوق كل شيء آخر. أما إذا كان من الممكن تحقيق ذلك في ظل النفوذ الأجنبي المستمر، والانقسامات الداخلية، والاحتلالات، وعدم وضوح الرؤية، والتناقضات الهائلة بنية وتكوين السلطة الحالية، فهو السؤال الحاسم الذي يولد استقطاباته الجديدة الخاصة. (يُتبع)


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير