النواب وخطابات الموازنة
أحمد حمد الحسبان
ليس تقليلا من شأن السادة النواب، ولا من خطاباتهم المدرجة تحت مسمى مناقشة الموازنة العامة للدولة، فلهم شخصيا ولمؤسستهم ولما يقومون به من مهام دستورية كل الاحترام والتقدير. وإنما محاولة لإلقاء الضوء على طبيعة النقاشات ومدى تأثيرها على موضوع الموازنة العامة للدولة باعتبارها العنصر الأكثر أهمية وتأثيرا في قوة ومنعة الدولة.
فالمناقشات النيابية لقانون الموازنة العامة للدولة تحولت تدريجيا إلى طقوس تكاد تكون محكومة ضمن إطار يراه الكثير من المختصين والمعنيين بأنه" نقاش في كل شيء ما عدا الموازنة العامة".
وفي استعراض المشهد بتفاصيله يمكن التوقف عند خطابات فردية مطلبية يعرضها النواب عبر شاشات التلفزة، وأمام الصحفيين، مع إدراكهم بأن تلبيتها أمر مستحيل بحكم العديد من الضوابط الدستورية والقانونية أولا، ومحدودية الموارد ثانيا.
فالنواب محكومون بنصوص تمنعهم من زيادة أية نفقات مرصودة في مشروع الموازنة، لكنها تمنحهم حق المناقلة والتخفيض فقط. وهي نصوص منطقية ـ من حيث المبدأ ـ ذلك أن إضافة أي نفقات يعني زيادة العجز بصورة ارتجالية تقريبا، ما يمس الملف المالي بأكمله.
وفي ذلك تفسير لتوصية اللجنة المالية بتخفيض النفقات بمقدار 40 مليون دينار، والتوصية بتحويلها إلى زيادات للرواتب، مع أن المبلغ قليل جدا ولا يكاد يكفي لزيادة دينار أو اثنين شهريا لكل موظف. وتفسير أيضا لنقد توصيات اللجنة المالية بشكل عام.
وبصورة أكثر تفصيلا، فإن النواب يدخلون على خط الموازنة في منتصفه، وليس من بداياته، وبالتالي يكونون أمام معطيات يصعب عليهم التدخل فيها، وتنحصر مهامهم في إقرارها أو رفضها، وفي بعض الحالات تخفيض مخصصاتها.
لكن ذلك لا يعفي النواب من مسؤولياتهم، فالمناقشات التي تجري تحت القبة، والتي يتحدث خلالها غالبية النواب ـ إن لم يكن معظمهم ـ لا تناقش مسألة إعداد الموازنة ولا تدخل في المسائل المالية والاقتصادية للدولة، وإنما تمر مرور الكرام على بعضها، وتركز على المطالب المناطقية، بحيث تبدو الخطابات وكأنها مناسبة لتواصل النواب مع قواعدهم الانتخابية وبأسلوب العلاقات العامة فقط، فهم يعلمون أن مطالبهم غير قابلة للتنفيذ لعدم توفر مخصصات مرصودة لها، وعدم إمكانية إضافة مخصصات جديدة.
بالطبع، هذه الحالة التي يقر الكثير من النواب بها، لا تعفي الحكومة من مسؤولياتها، فعملية إعداد الموازنة تتم ضمن قوالب شبه جاهزة، وأطر تكاد تكون مرسومة، وتقاليد لا يتم الخروج عنها رغم تغير الحكومات، وتبدل الوزراء المعنيين بها وتغير الظروف والمعطيات المالية والاقتصادية.
وغالبا ما يتم إعداد الموازنة ضمن ضوابط تعطي الحكومة هامشا من السعة المالية التي تمكنها من التحرك ضمن دائرة أكثر اتساعا من الإمكانات المتاحة فعلا. حيث تتوسع الحكومة في تقدير حجم الإيرادات المتوقعة، وبالتالي حجم الإنفاق المنتظر.
وغالبا ما تكشف الحسابات الختامية ذلك الخلل، فتكون الإيرادات الفعلية أقل من المتوقع، والنفقات مدفوعة بالكامل، فيرتفع العجز عما هو مقدر بعشرات أو مئات الملايين من الدنانير، وتتمثل المشكلة المستعصية بكيفية تغطية العجز، وتكون الوسيلة الوحيدة المتاحة لذلك الاستدانة من مصادر متعددة أبرزها مؤسسة الضمان الاجتماعي وثانيها من مصادر خارجية. فترتفع المديونية وتتفاقم عملية خدمة الدين العام.
وهناك قضايا كبيرة مسكوت عنها، وتتمثل بتجاهل ما تتعرض له رواتب الموظفين من تآكل، بسبب عدم تعويضهم عن نسبة التضخم، تحت مبرر عدم توفر المخصصات.
كل ذلك، وفي غياب مناقشات نيابية معمقة تدخل في التفاصيل ورقابة مسبقة، والتعامل مع آليات إعداد ومناقشة الموازنة بجرأة، وإعادة بناء لتلك العملية، يفاقم المشاكل المالية والاقتصادية ويفرغ العملية من مضمونها.
فالتغير الذي طرأ على شكل ومضمون البرلمان من البوابة الحزبية، لم يغير من آلية النقاش، ولا من عملية بناء الموازنة. واستحداث مجالس المحافظات" اللامركزية" لم يخفف من حدة المركزية في إعداد الموازنة
وبخاصة ما يتعلق باحتياجات المحافظات، وأولوياتها. بينما المشاكل الرئيسية ما زالت تتجذر وتتعمق. وما زالت مشاكل المديونية تتفاقم ليس من بوابة العجز السنوي المتراكم فقط، وإنما من بوابات عديدة تحتاج إلى من يتعامل معها بحرفية وتجديد.