خطة ترمب للانسحاب من سوريا والعراق
كارولين روز
أصبح دونالد ترمب اليوم الرئيسَ المنتخب للولايات المتحدة، بعد فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. ومن الطبيعي أن يثير صعوده إلى السلطة الكثير من التساؤلات حول شكل رئاسته ورؤيته للسياسة الخارجية.
ولعل أحد المواضيع التي لا تزال غامضة في سياسته الخارجية هو كيف ستتعامل إدارة ترمب مع الوجود العسكري المستمر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالمهام المرتبطة بـ"عملية العزم الصلب" التي يقوم بها التحالف العالمي لهزيمة "داعش" في العراق وشمال شرقي سوريا. وفي أغسطس/آب الماضي، أعلنت إدارة بايدن عن إنهاء تدريجي لمهمة مكافحة "داعش" وجدول زمني للانسحاب الجزئي للقوات الأميركية بحلول نهاية عام 2026.
وتوفر الفترة الأولى من رئاسة ترمب نظرة- وإن كانت محدودة- حول كيفية تعامله مع الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق وسوريا. وخلال إدارته السابقة، بقيت القوات الأميركية منتشرة ضمن عملية العزم الصلب، إلا أن نهج ترمب اتسم بكونه عسيرا على التنبؤ. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن عن انسحاب كامل من سوريا، ثم جرى التراجع عنه جزئيا لاحقا. ومع ذلك، قامت إدارته بتقليص عدد القوات من 2000 إلى 900 جندي في سوريا، وأذنت بخفض القوات بنسبة 50 في المئة من 5000 إلى 2500 جندي في العراق، كما أشرفت على نقل السيطرة على ثماني قواعد عسكرية في المنطقة.
ويزيد من تعقيد الوضع تأثير الهجمات المدعومة من تركيا في شمال شرقي سوريا، والتي قد تمارس ضغوطا إضافية على الموقف الأميركي وتدفع ترمب إلى التفكير في الانسحاب. ومع ذلك، قد يكون العامل الحاسم لاستمرار الوجود العسكري الأميركي هو تأثير الفريق الاستشاري الجديد لترمب. فالتعيينات الأخيرة في الإدارة وقيادات الوكالات والمناصب الدبلوماسية تشمل شخصيات أبدت شكوكا أو انتقادات صريحة لمهمة مكافحة "داعش" في العراق وسوريا. وقد يشير هذا النهج الأكثر انعزالية من الفريق الاستشاري إلى تغيير كبير في السياسة الأميركية، مما قد يؤدي إلى تقليص الوجود العسكري في المنطقة.
تاريخ الانسحابات
لا يعتبر الانسحاب العسكري في الشرق الأوسط أمرا جديدا على ترمب. فعلى الرغم من حملة "الضغط الأقصى" التي شنتها إدارته الأولى ضد إيران- حيث كان الوجود الأميركي في العراق وسوريا قوة توازن رئيسة في مواجهة الوكلاء المتحالفين مع إيران- فقد بادر ترمب إلى اتخاذ قرارات بالانسحاب الجزئي والكامل في مناسبات عدة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن ترمب الانسحاب الفوري لجميع القوات الأميركية البالغ عددها 900 جندي من شمال شرقي سوريا، ولكن القرار أثار ردود فعل عنيفة بين المستشارين الرئيسين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، واستقال عدد من كبار المسؤولين مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس والمشرف على التحالف العالمي لهزيمة "داعش"، بريت ماكغورك. وبالنتيجة، كان الرحيل السريع للقوات الأميركية من المواقع الاستراتيجية بالقرب من كوباني وسيرين وتل بيدر والمناطق المحيطة بحلب والرقة، سببا في خلق مساحة لهجوم تركي ضد شركاء "عملية العزم الصلب" الذين تُركوا بمفردهم كي يدافعوا عن أنفسهم. وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان الانسحاب، شنت القوات التركية هجمات جوية وبرية على "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية مرتبطة بـ"وحدات حماية الشعب"(YPG).وكانت للانسحاب الأميركي والهجوم التركي الناتج عنه آثار جانبية إضافية، ما أدى إلى خلق فراغ في السيطرة استغله النظام السوري والميليشيات المتحالفة مع إيران للتحرك إلى المناطق المتنازع عليها، وفي الوقت نفسه شهدنا ظهورا جديدا لـ"داعش" على مستوى منخفض.
وفي حين تراجعت إدارة ترمب عن إعلان الانسحاب بعد جدل كبير، مع إعادة تمركز القوات الأميركية الموجودة في العراق ونقلها إلى شمال شرقي سوريا، فمن الجدير ذكره أن إدارته اتخذت قرار الانسحاب وهي تدرك جيدا الفراغ الذي سيخلفه ذلك الانسحاب. وفي جلسة إحاطة البنتاغون في 15 أكتوبر/تشرين الأول، صرح وزير الدفاع مارك تي إسبر بأن القوات الأميركية لن تدافع عن شركائها الأكراد في "عملية العزم المتأصل"، حتى إنه صرح بأن الولايات المتحدة لديها توقعات موثوقة بأن القوات التركية سوف تضم أراضي في الشمال الشرقي وأن "قوات سوريا الديمقراطية" سوف تسعى إلى التوصل لاتفاق مع خصومها (النظام السوري وروسيا). وترمب نفسه غرد بأنه من "الذكاء" الانسحاب واغتنام الفرصة لاتخاذ موقف الحياد قائلا: "أولئك الذين زجوا بنا عن طريق الخطأ في حروب الشرق الأوسط ما زالوا يدفعون من أجل القتال. ليس لديهم أي فكرة عن القرار السيئ الذي اتخذوه. لماذا لا يطلبون إعلان الحرب؟".
وفي العراق، حافظ ترمب على تموضع قواته حتى الأشهر الأولى من عام 2020، إلى أن قتلت الولايات المتحدة قائد "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني وقائد "كتائب حزب الله العراقية" أبو مهدي المهندس. وأدى انتقام إيران ووكلائها من الميليشيات ضد الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية كبيرة مع جنود أميركيين، حيث أسفرت ضربة واحدة على قاعدة عين الأسد الجوية عن إصابة 109 من الجنود الأميركيين بإصابات دماغية رضية. وفي الأسابيع التي تلت، خفضت إدارة ترمب بهدوء، وبشكل تدريجي، الوجود الأميركي في جميع أنحاء العراق. حيث نقلت قوات "عملية العزم المتأصل" أكثر من ثماني قواعد- بعضها كانت في مواقع استراتيجية مثل قاعدة القائم، على طول الحدود السورية العراقية- إلى قوات الأمن العراقية والكردية. ونتيجة لذلك، تغير أيضا عدد القوات المتمركزة في العراق، حيث انخفض من 5000 إلى 2500.
وعلى الرغم من أن عملية انسحاب ترمب في العراق جرت بشكل تدريجي أكثر مما حدث في سوريا، فقد أشارت إلى أن ترمب يرى في فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط ضرورة واضحة- بغض النظر عن التداعيات والآثار المترتبة عليها. ومع ذلك، كان هناك الكثير من القوى الفاعلة في إدارة ترمب الأولى، نجحت في مواجهة الانسحاب الكامل. وعمل لاعبون رئيسون مثل بريت ماكغورك، والجنرال جوزيف فوتيل، وجون كيلي، وهربرت ماكماستر، والجنرال مارك ميلي، من بين آخرين، دورا كبيرا في لحظات مختلفة لنصحه بالعدول عن الانسحابات المفاجئة من العراق وسوريا التي كانت ستتسبب في زعزعة الاستقرار. وإضافة إلى ذلك، كان هناك رد فعل عنيف من الكونغرس، خصوصا داخل مجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون، في أعقاب إعلان ترمب على "تويتر" وفيه يأمر بانسحاب القوات من سوريا خلال 30 يوما.
اختيارات الإدارة
مع تشكيل إدارة ترمب الثانية، ألقت اختياراته وتعليقات حلفائه السياسيين بعض الضوء على كيفية التعامل مع الأمر اعتبارا من عام 2025. وخلال مقابلة مع تاكر كارلسون، أدلى روبرت ف. كينيدي جونيور بتعليقات تشير إلى أن ترمب يريد إخراج القوات من سوريا. وبحسب ما ورد فقد رسم ترمب خريطة دقيقة للشرق الأوسط وحدد قوام القوات في كل دولة.
ووفقا لكينيدي، كان ترمب يخشى أن تصبح القوات الأميركية على الحدود السورية التركية "وقودا للمدافع" في حال نشوب صراع بين سوريا وتركيا. وزعم كينيدي أن ترمب كان قادرا على الوقوف في وجه المجمع الصناعي العسكري الذي "يريد حربا دائمة". كما أشارت شخصيات رئيسة أخرى تحيط بترمب إلى مواقف مماثلة، فأيد نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس، بصفته عضوا في مجلس الشيوخ، سحب القوات من الشرق الأوسط، ويتضح ذلك من خلال رعايته لقرارين تشريعيين في عام 2023.
وكان الأول قرارا مشتركا يأمر بإنهاء الانتشار غير القانوني للقوات الأميركية في سوريا. والثاني، قانون الحروب الأبدية الذي ألغى تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية. وفي انتقاد لما وصفه بـ"مغامرة المحافظين الجدد"، عرّف فانس الجانب الرئيس للسياسة الخارجية لترمب الذي يمكن إيجازه بأنه "لا يمكنك إرسال قوات أميركا إلا إذا كان يتوجب عليك ذلك حقا". ودعا إلى تدخلات محدودة عندما تكون عمليات النشر مطلوبة. ومثل رئيسه، فإن فانس مؤيد قوي لإسرائيل، الذي شعر سابقا بأنه "خُدع" بعد القرارات السابقة بالانسحاب، على الرغم من أنه أشار أيضا إلى أن مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل لن تتوافق دائما، مشيرا إلى معارضته للحرب في العراق.
إن بيت هيغسيث، أحد أكثر تعيينات ترمب إثارة للجدل كوزير للدفاع، لديه آراء محدودة للغاية في السياسة الخارجية. وإن فائدة هيغسيث لترمب- وهو "تعيين ولاء" واضح- تتجلى بشكل أفضل من خلال سلوكه خلال مقابلة في الأول من يناير/كانون الثاني 2019. حيث رمش هيغسيث وأومأ برأسه بينما كان ترمب يتحدث عن "إعادة قواتنا الشابة إلى الوطن"، و"الحروب التي لا تنتهي" وكيف انتصر على "داعش". كل ما قاله هيغسيث هو أن هزيمة "داعش" كانت "إنجازاً مهماً بالتأكيد". كما قدم ادعاء غير مثبت خلال بث بدأ اعتبارا من 27 ديسمبر 2018، بأن القادة العسكريين والقوات كانوا يؤيدون القرارات التي اتخذها ترمب في سوريا والعراق.
أما تولسي غابارد التي اختارها ترمب لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية، فقد كوفئت على تأييدها لمواقفه، مع العلم بأنها من أشد المعارضين للتدخل في شؤون الدول الأخرى. ومع ذلك، فالتعليقات التي صرحت بها والتي تبدو مثل ترديد للدعاية الروسية أثارت قلق مجتمع الاستخبارات. حيث التقت غابارد بشكل مثير للجدل مع بشار الأسد بعد أن قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية معه، ثم كررت في وقت لاحق إنكار روسيا لمسؤولية الأسد عن الهجمات بالأسلحة الكيماوية. ثم جاءت لاحقا معارضة غابارد غير المفاجئة للتدخل الأميركي في سوريا، ودعت إلى حق السوريين في تقرير مستقبلهم. وفي الوقت الذي انتقدت فيه تعامل ترمب مع الانسحاب من سوريا، كررت مرة أخرى مطالبتها بانسحاب الجيش الأميركي من العراق وسوريا خلال حملتها الرئاسية عام 2020.
غير أن أحد الاختيارات الوزارية الرئيسة، وهو ماركو روبيو، يعتبر ثقلا موازنا في مواجهة الكثير من المستشارين الذين يدعمون بحماسة فك الارتباط الأميركي مع الشرق الأوسط. ففي أكتوبر 2019، انضم روبيو إلى مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديمقراطيين في انتقاد خطة ترمب للانسحاب، ووصف هذه الخطوة على "تويتر" بأنها "خطأ فادح ستكون له تداعيات تتجاوز سوريا". كما انحاز روبيو لصالح حملة "الضغط الأقصى" ضد إيران وشركائها مثل نظام الأسد، من خلال الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة كقوة توازن في مواجهة طهران. وتعتمد هذه الاستراتيجية على الحفاظ على فرقة من القوات الأميركية- مهما كانت صغيرة- متمركزة في العراق وسوريا كأداة ضغط بيد واشنطن. ومن المرجح أن يعارض روبيو الانسحاب المفاجئ والكامل، ومع ذلك، من المحتمل أن يكون كمن يغرد خارج السرب، حيث تطغى على صوته الأصوات داخل حكومة ترمب وإدارته بشكل عام التي تنتقد الاستمرار في المشاركة العسكرية بالشرق الأوسط.
إن دخول المشهد السوري في فصل جديد– في أعقاب الهجوم الخاطف الذي أعاد رسم خطوط المعركة الرئيسة في البلاد في غضون أيام قليلة– واحتمال شن هجوم أكبر بدعم من تركيا ضد شركاء التحالف الأميركي، "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يقودها الأكراد، يزيد من تعقيد موقف واشنطن. في حين احتفظت إدارة بايدن بقواتها المكونة من نحو 900 جندي أميركي في شمال شرقي سوريا، فمن المرجح أن تعيد إدارة ترمب تقييم موقفها بشكل جذري. ولا يعود السبب إلى سجل ترمب الحافل بتأييد الانسحاب العسكري فقط، إنما بسبب أصوات المستشارين المتزايدة التي تدعو إلى فك الارتباط الأميركي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وليس في سوريا فحسب.
وكما كانت الحال مع إدارة ترمب الأولى، فإن تحليل اختيارات ترمب الاستشارية ومحاولة "قراءة الفنجان" في سياساته السابقة لن يقدم الكثير للتنبؤ الناجح بما هو قادم فيما يخص القوات الأميركية المتمركزة في العراق وسوريا، ناهيك عن السياسة الخارجية للمنطقة الأوسع. ومع ذلك، يبدو جليا أنه وبالرغم من بعض الاختلافات الأيديولوجية داخل دائرة مستشاري ترمب، فمن المرجح أن الولايات المتحدة تتجه نحو انسحاب سريع وكامل في كل من العراق وسوريا. ما يضع نهاية لمهمة مكافحة "داعش" ويقدم مساحة جديدة للجهات الفاعلة المحلية، مثل إيران وروسيا والنظام السوري، للاستفادة منها في أعقاب انسحابها.