سجون بلا قضبان

{title}
أخبار الأردن -

 

وليد عبد الحي

نمطان من السجون ،أحدهما له جدران وقضبان وسجان، تقهرك حدوده لكنك تعيها، يأسر حريتك التي توهمتها يوما لكنك تنتظر يوم خلاصك الموعود منه ، أما الآخر فهو سجن بلا جدران ولا قضبان ولا سجان، تقهرك حدوده لكنك لا تعيها، ويأسر حريتك التي لم تكن لك يوما، ولا خلاص منه، فليس لك فيه سراح...إنه سجن العقل والرغبة والعادة.

فسجن الرغبة يقف على أبوابه سجانان أحدهما العقل وتعاضده الأعراف والعادات، فالطفل اللاهي مسجون برغبة والديه بالهدوء، والشاب المراهق مسجون في تقاليد تحرمه من ري ظمئه من جمال يشتعل حوله، والمرأة يسجنها احتشام تم وضع حدوده من غيرها، والرغبة في السلطة والثروة والجاه دونها سجانون لا يحصى عددهم.

أليست الرغبة في الحياة والخلود أمنية للإنسان يقمعها سجان اسمه الموت، أليس الشباب لهفا تسجنه كهولة تعد له سجنها، والعمل سجن الراحة، والجوع سجن الشبع ، والقلق سجن الطمأنينة. أليست الحياة الزوجية سجن يقف على أبوابه إرث انتقل من سجان وضع له قضبانا تقيدنا ولا نراها، أليس القبح سجانا للجمال، فكم هي معاناة القبيح والمعوق من قهر سجن الجمال، وكم هي معاناة المصاب بمرض مزمن من سجن الصحة، وكم ...وكم...وكم..

أليست العقائد والأديان والأفكار سجون لمنظريها وكهانها وفلاسفتها..فبعد عشرات القرون من البحث والتمحيص يخرج علينا ما بعد الحداثيون ليقولوا لنا " كيف يكون في التاريخ حقيقة إذا كان للحقيقة تاريخ"..هذا هو السجن الجديد، الحقيقة سجن لمعتنقها وسجانها الوهم بوعي اسمه الحقيقة...

تأكلون تنفيذا لأوامر سجن الجوع، وتتزاوجون بأوامر سجن الرغبة في اللذة والخلود عبر إنجابكم، وتتركون صوركم على الحائط بأوامر سجن الفناء الذي لا تريدونه...

وتوقفت عند الموسيقى التي لم يدلني عقلي على سجنها،فهي تدفق أفرح بيتهوفن الأصم، فأجمل الموسيقى هي تلك التي لا تسمعها لكنها تحررك من كل سجان...إن الموسيقى هي التعبير الوحيد عن الحرية، ولا أنسى عندما كنت أستمع في دار الموسيقى العربية في القاهرة لشروحات الدكتور محمود فوزي للسيمفونيات...وكم هزني تصويره للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن...فشعرت بأنه يحررني من " سجون متلاصقة سجان يمسك سجان"...

 


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير