الإسلام السياسي الشيعي العراقي وضرورة المراجعة الفكرية

{title}
أخبار الأردن -

إياد العنبر

لم يكن مستغربا أن هيمنة قوى الإسلام السياسي الشيعي على المجال العام في العراق بعد سقوط الدكتاتورية وتغيير نظام الحكم نحو "الديمقراطية" في 2003، ومن ثم بات الطريق معبدا أمام القوى والحركات السياسية الإسلامية الشيعية إلى سدة الحكم ما دامت هناك انتخابات، لأنهم الأكثر فاعلية وتنظيما في تحشيد الأتباع في مواسم الانتخابات. رغم مرور أكثر من عشرين عاما على ممارستهم الحكم، إلا أن حضورهم السياسي لم يتجاوز دائرة التمركز في دوائر السلطة، من دون أن يرافقه تغيير على مستوى الخطاب أو المراجعة النقدية للأطروحات الفكرية التي كانوا تبنونها في فترة المعارضة، ولا محاكمة أيديولوجياتهم.

تقييم تجربة القوى الإسلاموية في العراق يحتاج استحضار البيئة السياسية التي نشأت وعملت فيها في أيام المعارضة، إذ لم تساهم في إنضاج تجربتها السياسية. وهناك علاقة سببية وثيقة بين طبيعة وبنية النظام السياسي القائم ودور قوى المعارضة السياسية وسلوكها، ومن ثم تكون المعارضة امتدادا طبيعيا للثقافة والسلوك السياسي السائد في بلد معين. ولذلك فالمعارضة هي الوجه الآخر للنظم السياسية القائمة، حيث تتعلم أساليبها وتتبنى أطرها وآلياتها وسلوكها العام إذا وصلت الحكم!

مأزق قوى الإسلام السياسي الشيعي في العراق بدأ مع دخولهم العملية السياسية، واستمر إلى يومنا هذا. فهي لم تنجح في إسقاط نظام حكم صدام بعنوان الثورة التي رفعت شعارها في المعارضة، ولم تنجح في إسقاطه من الداخل، وإنما تعاملت مع واقع إسقاط النظام نتيجة التدخل العسكري الأميركي في العراق 2003. ومن ثم، فإنها لم تفرض طروحاتها الفكرية نحو أسلمة الدولة والحكم على النظام السياسي الجديد، ولكن ساهمت بقوة في تشكيل ملامحه، وتغلغل بعض من أيديولوجياتهم في تشكيل بنود الدستور والتشريعات القانونية.

أما على مستوى الممارسة السياسية، فقد استثمرت في شعاراتها الطائفية ومخاوف العودة إلى "المظلومية الشيعية" للتحشيد السياسي وإيهام الجمهور بأنهم مدافعون عن "حق المكون الأكبر". وأسست بناء على ذلك، منظومة حكم قائمة على أساس مساومات وتنازلات من أجل البقاء في السلطة. وبدأت تنحسر فاعليتها الاجتماعية القائمة على أساس معارضتها للدكتاتورية ومطالبتها بحقوق الطبقات المسحوقة، بعد أن تحولت ممارساتها في إدارة الدولة إلى الاستئثار في السلطة والهيمنة عليها. وكما يقول كنعان مكية في كتابه "جمهورية الخوف": "إن ضحايا القسوة والظلم ليسوا أفضل من معذبيهم، بل إن وضعهم في العادة ليس أكثر من مجرد انتظار لتبادل الأدوار معهم".

غياب المراجعة

وحتى الآن، لم تحدث مراجعة فكرية عند أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق، ما يعني وجود أزمة تجديد بالفكر. إذ لا توجد طروحات يمكن أن تقدم أي نموذج للحكم، يقوم على أسس ومبان فكرية تتلاءم مع ما تسوقه في خطاباتها السياسية التي تتحدث فيها عن الديمقراطية والاحتكام إلى الدستور، ويبدو أن تلك المشكلة مركبة.

فهي في فترة التأسيس لم تستطع أن تخرج من دائرة الأدبيات السياسية التي أنتجتها تيارات "الإحيائية الإسلامية" بشأن الدولة ونظام الحكم الإسلامي، وبعد 2003 لم تستطع أن تقدم أي نموذج من نماذج الحكم التي كان يطرحها قادتها في أيام المعارضة، ومن ثم كانت مواقفها في التعاطي مع الواقع السياسي العراقي بعد 2003 قائمة على أساس تعامل برغماتي. وبالتالي من يقرأ أدبياتها في فترة المعارضة ويقارنها مع سلوكها ومواقفها في العمل السياسي، يمكن أن يصل إلى نتيجة تفترض أنها- أي أدبياتهم السياسية- كانت تنظر لدولة طوباوية.

أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر يسيرون حاملين صوره والأعلام الوطنية خلال مسيرة تدعو لمقاطعة الانتخابات البلدية العراقية لعام 2023

وفي أساسها، تنتمي طروحات الإسلام السياسي الشيعي في العراق إلى تيار الإحيائية الإسلامية، التي تركز على مسألة الهوية الإسلامية والدعوة إلى أسلمة الدولة والمجتمع. وقد يكون نوعا من المبالغة اللفظية، وصف نتاجات القيادات السياسية الإسلاموية الشيعية في العراق بأنها تحتوي فكرا سياسيا ينظر فيه لنموذج "دولة". إذ لا يعدو أن يكون في عداد الأدب السياسي الحركي.

وتدعي أغلب الأحزاب السياسية الشيعية التقليدية أنها تنتمي إلى المدرسة الفكرية للسيد محمد باقر الصدر، والذي كان يدعو فيها إلى إقامة "دولة إسلامية عقائدية"، ويؤكد على أنها ضرورة شرعية لإقامة حكم الله على الأرض، ولتجسيد دور الإنسان في خلافة الله، وهي أيضا ضرورة حضارية لأنها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي. ولذلك يقومالأساس "رقم 5" من أسس "حزب الدعوة الإسلامي"، والتي ينسب كتابتها إلى "الشهيد محمد باقر الصدر"، على اعتبار أن الدولة الإسلامية "دولة فكرية"، لأنها تحمل رسالة الإسلام الفكرية.

بيد أن هذه الرؤية والأسس الفكرية، لم تعد حاضرة في الخطاب السياسي لـ"حزب الدعوة الإسلامي" بعد 2003، ولذلك نجده قد تخلى عما جاء في الفصل الأول من النظام الداخلي لـ"حزب الدعوة الإسلامية"، والذي حدد هدفه في "تغيير واقع المجتمع البشري إلى واقع إسلامي، بتغيير المفاهيم والسلوك والأعراف والعلاقات على كل المستويات، على أساس من العقيدة والرابطة الأخلاقية الإسلامية وإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية، تحقيقا لإرادة الله سبحانه في عباده وابتغاء مرضاته جل شأنه". لأنها لم تعد تتلاءم مع قبوله المشاركة في تأسيس "النظام الديمقراطي" في العراق.

وطروحات مؤسس "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية"، و"تيار الحكمة" بعد انشقاقه من "المجلس"، في ثمانينات القرن الماضيالسيد محمد باقر الحكيم (اغتيل 2003)، التي تنظر لدور الأمة في اختيار الولي الفقيه "من خلال التدقيق في وجود المواصفات التي وضعها الشارع المقدس كشروط أساسية في الولي الفقيه... وتقديم المشاورة الصالحة للحاكم الإسلامي". يبدو أنها قد تحولت إلى نصوص تراثية مكانها في أرشيف ومكتبات "المجلس الأعلى" و"تيار الحكمة"، واستبدلت بشعارات سياسية منها "الشراكة الوطنية" و"الدولة العصرية العادلة" كما يرددها دائما السيد عمار الحكيم في مهرجانات خطابية ومواسم الانتخابات. والمفارقة أنه لا "الشراكة الوطنية" أنتجت استقرارا سياسيا، ولا شعار "الدولة العصرية العادلة" تحقق لينافس نظرية العدالة التي قدمها جون راولز وأمارتيا سن.

والتيار الصدري، الذي يعود بعنوانه إلى السيد محمد محمد صادق الصدر (اغتيل 1999) على الرغم من كونه لم يشارك في تأسيس بنية النظام السياسي بعد 2003، فإنه لم يتمسك بطروحات السيد محمد الصدر التي تتبنى ولاية الفقيه العامة والمطلقة، كما ناقشها في كتابه "ما وراء الفقه"-الجزء التاسع، ورفضه الواضح للنظام الديمقراطي في كتابه "نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان". إذ تبنى السيد مقتدى الصدر خيار التوجه نحو "دعم الديمقراطية لإيصال المخلصين إلى سدة الحكم".

إذن، مشكلة أيديولوجيات الإسلام السياسي الشيعي في العراق، بقيت مجرد يوتوبيا تدعو إلى إقامة نظام حكم إسلامي، ولم تكن قادرة على التعاطي مع واقع التغيير السياسي بعد 2003، وأثبتت عجزها عن التصالح مع واقع الدولة بما تحمله من مصاديق واقعية كمفهوم مجرد وكمجموعة من الممارسات. إذ يبدو أن الغلبة أصبحت لواقعية العمل السلطوي، وما تفرضه من برغماتية، وباتت ضرورة تفرضها الرغبة بالوصول أو البقاء في الحكم، حتى وإن كان على حساب التخلي عن الأفكار والطروحات التي تأسست عليها تيارات الإسلام السياسي الشيعي في العراق، والتي كانت تروج لها طوال فترة المعارضة.

وأستحضر هنا مقارنة مهمة، فبعد مرور عشر سنوات على تجربة حكم الإسلام السياسي في إيران، بدأت تتمخض ولادة تيار فكري إصلاحي لتقييم التجربة وتقديم طروحات تتراوح بين النقد والإصلاح. لكنها بصورة عامة تجاوزت حالة الانغلاق الفكري الذي حاول دعاة ولاية الفقيه العامة تنميط الفكر السياسي الشيعي بنموذجه. لذلك برزت أسماء وعناوين وطروحات فكرية أمثال محمد خاتمي، وعبد الكريم سروش، ومحسن كديور، ومحمد مجتهد شبستري. أما في العراق وبعد تجربة عشرين عاما فلا نزال ننتظر مفكرين يستثمرون مواقف التصالح مع الواقع السياسي ويساهمون ببناء نظرية سياسية تعالج الأزمات السياسية في العراق. ويقدمون مشروعا سياسيا شيعيا قائما على أساس فكر الارتباط بين المشروع الإيراني والمشروع العراقي.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير