الحقيقة الدينية والحقيقة الأخلاقية

{title}
أخبار الأردن -

 
إبراهيم غرايبة
يقوم الدين والخلق على الفرد؛ فالدين بما هو تصور الإنسان للحقّ يقوم على الفرد والفردية، وما هو إلا إيمان الفرد بالحق الذي نزل من السماء، وهذا الإيمان لا يكون إلا فردياً، والقرآن الكريم يؤكد على الفردية الخالصة في الإيمان والمسؤولية عن الأفعال، فالإنسان يؤمن أو يكفر وحده ولا يمكن إكراه أحد على اعتقاد أو منعه من اعتقاد، ثم يلاقي الله تعالى فرداً، ويجادل عن نفسه فرداً، ويتحمل فرداً مسؤولية أفعاله واعتقاداته.
أما الدين في الفضاء العام فهو خطاب ديني وليس ديناً، بمعنى توجيهات ومعالجة منهجية للنص الديني، وسواء كان ذلك الخطاب صواباً أو خطأ ضرورياً أو غير ضروري فهو ليس ديناً، هو تفسير النصوص الدينية وفهمها وتطبيقها، وهذه بداهة عمليات إنسانية، ينشئها الإنسان وفق قدراته العقلية ومصالحه وأهوائه ومعارفه وخبراته وتجاربه، وهي بالضرورة منتج حضاري اجتماعي يعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي والحضاري للأمم.
والأخلاق بما هي فعل الصواب وتجنب الخطأ من غير حوافز أو دوافع قانونية أو دينية لا تكون أخلاقاً إلا بما هي مستمدة من الفرد وضميره الفردي، وهو أيضاً (الفرد و/ أو الضمير) مصدر الأخلاق وضمانها الأساسي.
تتوافق الأديان والمجتمعات غالباً، إن لم يكن دائماً، مع الأخلاق، ويتحولان (الدين والمجتمع) إلى حارس أو ضامن للأخلاق، لكن ذلك لا يغير من كون الأخلاق فردية في منشئها وضمانها الأساسي. وعلى نحو تاريخي وتطبيقي أنشأ الدين والأيديولوجيا الدينية سلطات وأنظمة سياسية، ثم تولت المجتمعات في عصر الصناعة مسؤولية التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، وتنشئة الفاعلين الاجتماعيين وضبطهم وتهيئتهم لأدوارهم ومستقبلهم الحياتي والعملي والاجتماعي.

وفي التراكم التاريخي للتجربة؛ تحويل المعتقدات والتصورات الفردية للحق والأخلاق إلى أنظمة اجتماعية وسياسية، صارت الأنظمة الدينية والأخلاقية والاجتماعية ديناً، وتشكلت حولها أيضاً منظومات ومدونات واسعة في الفقه والتفسير والتشريع، وأسندت صياغتها وتطبيقها إلى أفضل الكفاءات العلمية والقيادات الاجتماعية والمؤسسات العلمية والدينية، والحال أن الجامعات العريقة في العالم اليوم مثل؛ الأزهر والزيتونة وأكسفورد وكامبريدج وهارفارد، نشأت ابتداء لأجل صياغة وفهم تطبيق الحقيقة الدينية. ثم تحولت إلى جامعات علمية في سياق تطور العلوم والأمم، وقد نشأ جدال مرافق للثورة الصناعية ما يزال قائماً في عالم الإسلام اليوم حول قدرة المجتمعات على تولي ضمان الشأن الديني والأخلاقي بدلاً من السلطات السياسية والدينية، لكن وفي ظل صعود الفردية وتحولها من ضريبة عصر الصناعة إلى فضيلة عصر الشبكية تنشأ وعلى نحو جارف مقولة العودة إلى الفرد كضامن وحارس للدين والأخلاق.
إنّ التنظيم الاجتماعي الحديث (الصناعي) للأمم والمدن برغم تقدمه على التنظيم الزراعي في احترام الفرد والتنوع والخصوصية، ظلّ يتجاهل الفروق الفردية والثقافية بين الناس، وكان يخضع جميع الأفراد إلى نظام نمطي موحد، ويتجال حقيقة أن نصف الناس تقريباً يميلون إلى العزلة والفردية، ولا يقبلون باختيارهم على المشاركة الاجتماعية إلا في حدود ضرورات الحياة الأساسية.
لكن بقي هذا النصف يخضع لهيمنة واتجاهات وقيم النصف الآخر الذي يرى الجماعية والوحدة الاجتماعية والثقافية والدينية والأخلاقية أصلاً بل قيمة أخلاقية! لكن الشبكية أتاحت المجال للأفراد مقاومة المركزية الاجتماعية والسياسية، بل إنّ المركزية على مستوى الدولة والمجتمع والمؤسسات تتبخر اليوم بفعل الشبكية، وأصبح في مقدور الأفراد والثقافات وأساليب الحياة والمعتقدات أن تعمل مستقلة عن الدول والمجتمعات، وفي ذلك فإنّ التنظيم الديني والاجتماعي للأمم أو الدور الذي تمارسه السلطات السياسية والدينية والاجتماعية في هذا المجال أصبح موضع مراجعة وتحدّي.
يقول مالوري ناي في كتابه (الدين: الأسس) إنه يمكن للدين والأيديولوجيا أن يولدا السلطة، ويمكن أن يكون الدين نفسه جزءاً من الخطاب الذي يفسر علاقات السلطة وتوقعاتها، ويمكن أن يعمل في تنظيم العلاقة بين الطبقات وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية والثقافية في الحياة اليومية. وقد تكون الأيديولوجيات الدينية بوصفها مجموعة من الأفكار والممارسات جزءاً من تبرير وفرض علاقات السلطة، كما يمكن أن تكون هذه الأيديولوجيات وسيلة يتم من خلالها الاعتراض على السلطة ومقاومتها.
وفي ذلك فإنّ "الحقيقة الدينية" تكون هي توقعات السلطة ومصالحها وأهواؤها وتقديراتها؛ إذ ليس مهماً أن تكون فكرة دينية صحيحة أو منطقية أو علمية، لكن المهم أن تحقق هدفاً معيناً. وعندما تنتهي فعاليتها فإنها تغير. لم يزعج هذا معظم الموحدين قبل عصرنا لأنهم كانوا على دراية مؤكدة أن أفكارهم عن الإله لم تكن مقدسة؛ كما تقول "كارين آرمسترونغ".
المؤمنون يحتاجون إلى الحقيقة، والناس في قلقها وحيرتها وفشلها تحتاج إلى الإيمان، والسلطة تتطوع بتوفير الإيمان والحقيقة، فهي (السلطة) كما يقول "ميشيل فوكو" تسود كل مكان ليس لأنها تشمل كل شيء، لكن لأنها تنبعث من كل مكان. هكذا فإنّ السلطة وهي تشكل الخطاب تنتج نظاماً للحقيقة، ذلك أنّ الخطاب هو الطريقة التي نفهم بها العالم وننشئ الحقائق، فما العالم والحقائق سوى ما نتصوره عنهما، وفي تنظيم القوة والمعرفة يتشكل الخطاب. وبالطبع فإنّ المعارضة في خطابها الديني تتحدى السلطة وتنشئ نظاماً آخر للحقيقة، يقول رئيس الكنيسة الإنجيلية في جنوب إفريقيا القس، ديزموند توتو، والحائز على جائزة نوبل 1984 إذا اقترح أحد أنه لا توجد علاقة بين الدين والسياسة فإنه يقرأ في إنجيل مختلف عن إنجيلي.
إنّ الدين بذاته أو في هيئته الأصلية ليس سبباً للمعاناة أو التقدم، وعندما وصفه ماركس بأنّه "أفيون الشعوب" كان يقصد بأنه مخرج الناس والسلطة معاً لتبرير الظلم أو تحمله، فهو بالنسبة للمظلومين دواء أو مسكن، وبالنسبة للطبقات المهيمنة تمرير أو تلطيف لعدم المساواة السياسية والاقتصادية. أو كما يراه "غرامشي" أداة الطبقة السائدة لجعل الإذعان لها أمراً مقبولاً وجزءاً من الحياة اليومية والثقافية.
والأيديولوجيا كما يراها المفكر الفرنسي الماركسي، ألتوسير، هي وسيلة لرؤية الحقائق الأخرى؛ أي الوهم المضلل بالرغم من أنها تشير ضمنياً إلى الحقيقة. هكذا حسب ألتوسير فإنّ المقموعين تمنحهم الأيديولوجيا شعوراً بالحرية دون أن تحررهم بالفعل، ويسلكون في الإذعان بحريتهم ووعيهم وإرادتهم كتابعين. إنهم يعتقدون أنهم أحرار، لكنهم في الواقع سجناء أيديولوجيا تشعرهم بأنهم أحرار.
وعندما رأى "ماكس فيبر" أنّ الدين أساس للتقدم الرأسمالي لم يكن يقصد بالطبع أنه منشئ للرأسمالية البروتستانتية الأمريكية، لكنه بالتأكيد عامل مساعد، ففي فهمه الدقيق للظروف المادية والأيديولوجية والاجتماعية التي سادت في أمريكا الشمالية في الفترة ما بين القرن السادس عشر والثامن عشر قدم ماكس فيبر تصوراً مهماً للرأسمالية وعلاقتها بالبروتستانتية والتي من خلال تشجيعها على الانضباط والزهد بين أتباعها مع المحافظة على الاقتصاد والعمل الدؤوب شجعت على تطوير الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي. لكن مؤكد أنّ الرأسمالية بدأت في أوروبا قبل ذلك بكثير.

وما تزال الكنيسة في دول عدة في القارات الأوروبية والأمريكية برغم علمانيتها مرتبطة بالسلطة، وتمثل أداة مهمة لإضفاء الشرعية على السلطة، أو أداة لتنفيذ القانون وبناء الهوية والإجماع الوطني. ويمكن القول إنّ ممارسة الاعتراف على الطريقة الكاثوليكية له الأثر نفسه، فاعتراف التائبين بخطاياهم للقس يعرض التائب لنظرة الكنيسة بطريقة يمكن له أن يعادلها مع نظرات آخرين في مراكز السلطة، هذا الشعور بالمراقبة الذي تبثه السلطة من خلال الدين أو السجون أو الشركة أو الكاميرات، يجعل المواطن يتصرف ويفكر دائماً تحت تأثير الشعور بأنه مراقب. وليس له خيار سوى أن يمضي في طريق السلطة الممهد والواضح والآمن،.. أو الحرية مع التيه والفوضى.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير