الروابدة.. شيء من التاريخ
محمد حسن التل
فرق كبير بين من يمارس السياسة كصاحب مشروع يسعى إلى أن تكون تفاصيل هذا المشروع على أرض الواقع كحقيقة من خلال موقعه ويظل مشتبكًا مع هذا المشروع حتى بعد خروجه من المسؤولية الرسمية ، ويبقى وفيا لوطنه على كافة الوجوه وفي مختلف المواقف، وهذا النوع من الرجال لا ينظر إلى التنفيذ بمقدار ما يفكر في التأسيس الممنهج للمستقبل المبني على أسس متينة في كافة المجالات الوطنية مستندا الى اقتناعه الكامل بقيمة وطنه ، لذلك يبقون في ذاكرة الناس الوطنية، وبين موظف يبدأ وجوده بقرار وينتهي بقرار مهما ارتقى بالمسؤولية لأنه لا ينظر إلى الموقع الموجود فيه إلا من باب التنفيذ والمنفعة وأنه موظف لا أكثر ولا أقل ، لذلك هؤلاء مروا في مسيرتنا الوطنية و خلف أبواب الماضي والنسيان وغادروا ذاكرة الناس.
الرئيس الدكتور عبدالرؤوف الروابدة استطاع بجدارة أن يحجز مقعده في الصف الأول كصاحب مشروع فكري وسياسي ووطني، يعمل على تحصين البلاد من بوابة القناعة بهذ الوطن وضرورة الحفاظ عليه وتفعيل سلوك المواطنة الحقيقية و التركيز على ترسيخ قيمة الأردن التاريخية في أذهان الأجيال وتدريسه لهم حتي يستطيعوا هضمه وفهمه فهما حقيقيا وإدراك قيمة وطنهم وتاريخة العميق عبر طبقات وتطورات التاريخ ، وخصوصية هذه الدولة، والادراك الحقيقي لهذا التاريخ ودراسته دراسة عميقة تبحر في أعماقه حتى يستطيع الإنسان الأردني أن يعرف أنه لا يعيش في أرض كانت خالية من السكان أو ممرًا فقط ، بل هو وطن له تاريخه الضارب في أعماق الزمن .
مناسبة هذا الحديث أن الرئيس الأستاذ الدكتور عبد الرؤوف الروابدة سمح لي بمحبة الوالد أن أطلع على مشروع كتاب له "مخطوط" بعنوان أولي "الأردن شيء من التاريخ"
ولا أريد أن أقول يكتب فيه بل يبحر من خلال أبوابه وفصوله في أعماق تاريخ هذا الوطن، وكأنه يقول للأردنيين الحاضرين ولتلك الأجيال التي ستأتي أن الأردن ليس كما يقول أبناء السحب السريعة وجد بالصدفة أو جاء نتيجة للقسمة التي تمت في سايكس بيكو أو جاءت الدولة فيه استرضاء للملك الشهيد عبدالله الأول بعد أن انقلبت بريطانيا وفرنسا على وعودهما للشريف الحسين بن علي وأبنائه باتجاه الوقوف إلى جانبه بتنفيذ مشروعه نحو توحيد العرب في دولة واحدة بعد تحررهم من الدولة العثمانية، وللأسف فإن هذه الدعايات السوداء غطت على قناعة البعض منا وباتوا يتعاملون مع هذا البلد من هذا المنظور ، و ساعد ضعف وتهالك التربية الوطنية في بلادنا على امتداد عقود طويلة على تعتيم الصورة أو تشويهها في ذهن الأجيال بقيمة الأردن كوطن وتاريخ وإنسان ودولة.
يبدأ المخطوط بشرح دقيق لمعنى مصطلح الأردن ، وأجزم أن معظمنا لا يعرفون الكثير من هذه المعاني ،
ثم يأتي الفصل الثاني حول تاريخ الأردن القديم وهو باعتقادي الأهم لأنه يرد على كل الترهات التي يحاول أصحابها التقليل من أهمية الأردن التاريخية منذ العصر الحجري القديم بمعلومات مثبتة ومسندة إلى مصادر عالية المستوى، ومن أهم ما تشير إليه هذه المصادر أن تاريخ حياة البشر في الأردن سبق تاريخ الحياة في جاوة والصين حيث تعود إلى مليون وأربعمئة سنة .
يسترسل الرئيس في توثيق تاريخ الأردن القديم بالمعلومات والأرقام مرورًا بكل المراحل كما أشرت منذ العصور القديمة ثم الممالك السامية القديمة وأدوم ومؤاب وعمون ، ثم يصل إلى مرحلة الغزاة والهكسوس والبابليون والآشوريون والفرس وكثير غير هؤلاء برصد علمي دقيق موثق.
و يثبت أن الأردن كان دائما في عين الغزاة لميزاته الاستراتيجية الكثيرة خصوصًا على مستوى الجغرافيا كنقطة ربط بين بلدان هذه المنطقة من العالم.
يمضي الرئيس في عملية توثيق لتاريخ هذا البلاد بكل العصور التي مرت عليه حتى يحط القلم رحاله إلى زمن الثورة العربية وظروفها وانعكاساتها على الأردن والتي جاءت نتيجة لشعور العرب بأنهم مهملون ومهمشون من قبل قادة الإمبراطورية العثمانية، بل كان هناك تقصد في إيذائهم خصوصًا بعد تسلم الاتحاد والترقي دفة الحكم وقامت بتكريس الإساءة للعرب وانحازت للقومية التركية وكل هذه التفاصيل وغيرها الأمر الذي أدى إلى نشوء الجمعيات العربية السرية التي تطالب بتحرر العرب وانتهت الأمور إلى ما انتهت إليه حيث أعلنت ثورة العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي.
جاء الحديث عن هذه المرحلة في مشروع الكتاب بروح عروبية واضحة، وتبيان للحقائق ورد واضح على كل الأقاويل المشبوهة بأن الثورة كانت نتيجة التحالف مع البريطانيين لمجرد التحالف وأنها طعنة في ظهر الدولة العثمانية "المسلمة ".
يفتح الرئيس فصل تأسيس الإمارة بكل ظروفها والحاجة إلى هذا التأسيس المبارك وأهميته بالنسبة للعرب والأردنيين حيث اعتبر أحرار العرب هذه الإمارة بداية أولى وقاعدة أساسية نحو تحرير الأمة ومن هذا الباب يبدأ الرئيس الحديث عن تاريخ الأردن خلال القرن الماضي في كل مراحله وتفاصيله مؤطرًا المخطوط كما أشرت بتوثيق متين لا يرتقي إليه الشك.
المخطوط قيمة علمية نادرة وأعتقد أنه لأول مرة يخرج علينا أحد كبار سياسينا بهذا النمط من الكتابة المنحازة للأردن بعيدا عن السياسة وآرائها ومتاهاتها .
دائما أقول أننا بحاجة إلى المفكر السياسي وليس إلى الموظف السياسي لأن التفاوت بين المفهومين كبير ..
أجد المخطوط فرصة نادرة لوزارة التربية والتعليم وكل المعنيين في المناهج أن يخرجوا من تيه البحث عن منهاج تربية وطنية اومنهاج تاريخ الاردن يرتقي إلى مستوى الهدف المنشود في تنمية الشعور الوطني لدى الأجيال واعتماد هذا المخطوط كمرجع رئيس في تدريس طلاب الاردن لهاتين المادتين..
مشروع الكتاب جهد كبير في توثيق تاريخ الاردن واثبات كبير بأن هذ الوطن له تاريخ ضارب قي عمق الزمن والتاريخ...