خبراء اقتصاد: الموازنة متأرجحة ومتناقضة
اتفق الخبيران الاقتصاديان حسام عايش ومحمد البشير على أن مشروع قانون الموازنة العامة، الذي قُدِّم إلى مجلس النواب وأُعلن عنه على لسان وزير المالية، جاء بما يتفق مع النهج التقليدي للموازنات الأردنية، فقد اتسمت تفاصيله بالوضوح النسبي سواء من حيث التوقعات أو الأرقام، وكالعادة، تستند الموازنة إلى إعادة تقدير النفقات والإيرادات خلال العام، بالزيادة أو التخفيض، وفقًا للظروف الاقتصادية المتغيرة.
وأكد الخبيران أن النجاح الحقيقي للموازنة لا يكمن في التوقعات المحاسبية أو محاولات التجميل المالي، بل في قدرتها على إحداث تحول نوعي في معيشة المواطن، وبناء اقتصاد وطني قادر على مواجهة التحديات وصناعة مستقبل أفضل.
وفي هذا الصدد، أوضح عايش في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن موازنة العام شهدت تخفيضًا في النفقات الجارية والرأسمالية بهدف تقليص العجز المالي من جهة، ومواجهة تراجع الإيرادات المحلية من جهة أخرى، نتيجة الظروف الإقليمية والدولية، لا سيما تأثير الحرب الإسرائيلية على غزة وما صاحبها من انخفاض في الإيرادات الضريبية والسياحية.
وعلى الرغم من أن الموازنة تسعى لتعزيز الحماية الاجتماعية من خلال زيادة مخصصات صندوق المعونة الوطنية إلى 280 مليون دينار، ورفع دعم صندوق الطالب المحتاج إلى 30 مليون دينار، وزيادة النفقات الطبية إلى 134 مليون دينار، إلا أن هذه الأرقام تُظهر بوضوح تحديًا أعمق، فبدلًا من تقليص أعداد المستفيدين من هذه البرامج الاجتماعية، نجد أن الأعداد آخذة في الازدياد، ما يعكس ضعف العائد الاجتماعي من السياسات الاقتصادية المتبعة، وعليه، فإن زيادة المستفيدين بـ15 ألف أسرة لصندوق المعونة الوطنية وإضافة 9000 طالب لصندوق دعم الطلبة المحتاجين ليست إلا مؤشرًا على قصور منظومة الحماية الاجتماعية في تحقيق أهدافها الأساسية، وفقًا لما صرّح به عايش لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
أما على صعيد الدين العام، ذكر عايش أنها سعت إلى إبراز بعض التحسينات الشكلية، عبر محاولة الفصل بين إجمالي الدين العام والدين المتعلق بمؤسسة الضمان الاجتماعي، فقد أشار وزير المالية إلى أن الحكومة أوفت بالتزاماتها تجاه ديون الضمان الاجتماعي، التي بلغت نحو مليار دينار خلال عام 2024. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الواضحة أن خدمة الدين العام تُثقل كاهل الاقتصاد، إذ يُتوقع إنفاق 2.2 مليار دينار في عام 2025 على الفوائد وأقساط الديون.
وعلى الرغم من حديث وزير المالية عن انخفاض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 90% إلى 80% بحلول عام 2028، فإن هذه التوقعات تبقى رهينة بقدرة الاقتصاد على تحقيق معدلات نمو تتجاوز الحدود المتواضعة الحالية، فالموازنة تتوقع نموًا اقتصاديًا بنسبة 2.3% لعام 2024، وهي نسبة بالكاد تعكس تحسنًا حقيقيًا.
وفيما يتعلق بالمشاريع التنموية الكبرى، قال عايش إن مشروع الناقل الوطني يعد مثالًا واضحًا على فجوة بين التطلعات والإمكانات، إذ خُصص لهذا المشروع مبلغ 50 مليون دينار فقط، في حين تبلغ تكلفته الإجمالية حوالي 3.3 مليار دولار، وهذا الرقم المحدود يثير التساؤلات حول الجدية والجدوى، وما إذا كان كافيًا لتغطية الدراسات أو الأنشطة التمهيدية للمشروع، مما يسلط الضوء على الحاجة لتخطيط مالي أكثر دقة ورؤية أكثر شمولية.
وأكد أن ما تتطلبه المرحلة لا يرتبط بإعادة صياغة أرقام الموازنة، بل بمراجعة شاملة لكفاءة الإنفاق العام وربط النفقات بمؤشرات أداء واضحة، بما يضمن تعظيم العائد الاقتصادي والاجتماعي، كما ينبغي تحسين كفاءة الإيرادات المحلية، وتعزيز الإنتاجية الوطنية لتقليل الاعتماد على الديون، ليس فقط عبر خفض الفوائد بل باستخدام تلك الديون في مشاريع تحقق عائدًا حقيقيًا ومستدامًا.
بدوره، قال الخبير محمد البشير إن التحدي الحقيقي يكمن في معالجة الجذور العميقة للأزمة الاقتصادية التي تُقيد قدرة الاقتصاد الوطني على تحقيق نمو مستدام ومؤثر، مؤكدًا ضرورة تحقيق نسب نمو تتجاوز الحد الأدنى يتطلب معالجة شاملة للمؤشرات الاقتصادية الهيكلية، وفي مقدمتها البطالة، التي باتت عقبة أمام تطلعات التنمية.
وأشار إلى أنه لا يمكن تحقيق نمو فعّال دون إصلاح جذري للأدوات المالية والسياسات الاقتصادية، فالضرائب، التي تُشكل أداة مالية رئيسية، تعاني من خلل بنيوي، حيث يؤدي تغوّل الضرائب غير المباشرة، كضريبة المبيعات، إلى إرهاق القوة الشرائية للمستهلكين، وهذه القوة هي المحرك الأساس لخطوط الإنتاج التي يجب أن تعمل بكامل طاقتها لتحقيق صناعة وزراعة أكثر فعالية، ومن هنا تبرز الحاجة لإعادة هيكلة النظام الضريبي لزيادة الاعتماد على ضريبة الدخل التصاعدية، مما يسهم في جسر الفجوة الاقتصادية بين الفئات الاجتماعية.
وفي الإطار نفسه، تابع البشير أن السياسة النقدية تظل عائقًا أمام النمو، حيث ترتفع كلفة التسهيلات المالية، مما يُثقل كاهل القطاعات الإنتاجية. ومع ذلك، يبقى أحد التحديات الأكثر إلحاحًا هو النفقات الجارية الضخمة، التي ترتكز بشكل أساسي على بندي الرواتب وخدمة الدين العام، حيث تجاوزت الأخيرة ملياري دينار سنويًا. هذا الواقع يستدعي قرارات جريئة لإعادة توجيه الإنفاق نحو أولويات تدعم الإنتاجية وتعزز الاقتصاد المحلي.
ونوّه إلى أن ما نحتاجه اليوم هو إحداث تحول في سلوكنا الاقتصادي، سواء من جهة الحكومة أو المواطنين، فالتحول الإيجابي الذي نشهده حاليًا في تفضيل المستهلك الأردني للسلع المحلية والعربية، ورفض السلع المرتبطة بالكيان الصهيوني، يمثل فرصة حقيقية لتعزيز القطاعات الوطنية، والمقاطعة، التي باتت ممارسة فردية واجتماعية عفوية، تُوفر حافزًا لتوجيه سياسات الدعم نحو الصناعة والزراعة المحليتين، مما يسهم في زيادة حصتهما من الناتج المحلي الإجمالي.
من دون شك، تحقيق نسب نمو تصل إلى 4% أو 5% ليس بعيد المنال، لكنه يتطلب إرادة سياسية وإصلاحات اقتصادية عميقة. يجب أن تكون الأولوية لتحفيز الإنتاج المحلي، رفع كفاءة الإنفاق العام، وتحقيق عدالة ضريبية، مما يضمن خلق بيئة اقتصادية مستدامة تُشجع الاستثمار وتُحسن من مستوى معيشة المواطن، وفقًا لما صرّح به البشير لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
واختتم البشير حديثه بالقول إن الطريق نحو التعافي الاقتصادي يبدأ من قرارات جريئة تُعالج الجذور عوضًا عن الاكتفاء بالمسكنات المؤقتة.