الكاتب بين طاحونتين
حسين الرواشدة
يخطئ من يتصور أن الكاتب يدور بين طاحونتين: ما يطلبه الجمهور (المستمعون)، وما يطلبه المسؤولون، صحيح أن رضا الناس غاية لا تدرك، لكن رضا الضمير هو الأصل، مهمة الكاتب تبدو هنا صعبة، وتحتاج إلى رؤية واستبصار.
فرق كبير بين كاتب تحركه أهواؤه ومصالحه، وحساباته الشخصية، وبين آخر تضبطه أخلاقيات المهنة فيلتزم الاستقامة، ويتحرر من سطوة الخوف والمحاباة، وينحاز لقناعاته بشجاعة، حتى لو كانت عكس اتجاه التيار.
يعتقد بعض القراء، وكذلك المسؤولون، أن واجب الكاتب هو تبني قضاياهم، والدفاع عن مطالبهم، أو إنجازاتهم، من وجهة نظرهم فقط، حين يفعل ذلك يكون حرا ونزيها، أما حين يكتب بما يخالف آراءهم وأحكامهم المسبقة، فيدرجونه على قائمة “الكاتب المأجور”، ولا يقصرون بتجريحه والإساءة إليه.
الكتابة بالشأن العام ليست سهلة، والكاتب – متى كان صادقا- ينحاز لضمير المجتمع، ويحاول أن يمثله، وربما يصدمه أحيانا، لكنه لا يمكن أن يغامر بسمعته بأي حال أو مهما كان الثمن، قد لا يستطيع أن يقول الحقيقة كاملة، لكنه لا يزورها، ولا يدافع عن الباطل، يبحث عن المعلومات، ويتحرّاها، ثم يجتهد ويقدمها لقرائه ، حتى لو لم تعجبهم.
أسوأ ما يتعرض له الكاتب هو إصدار الأحكام الجاهزة عليه، أو تصنيفه وفقا للأهواء والرغبات، دون فهم أو تقدير لما يكتب، الحكومات والمجتمعات، غالبا، تتناوب على هذا الدور، لا يعجبها الكاتب الحر، ولا ترتاح إليه، وفي بلداننا يحاول الكاتب أن ينتزع حريته، بقدر ما يستطيع، لكنها بالطبع لا تكفي، فيضطر أحيانا للمشي وسط حقل من الألغام لتسريب رسائله وأفكاره، أو الوصول لما يحتاجه من معلومات.
يدرك الكاتب أن داخل المجتمع، قضايا مختلف عليها، وأن الكتابة عنها ستضعه بمرمى نيران هذا الطرف أو ذاك، بوسعه، عندئذ، أن يصمت، أو يجلس على مقاعد المتفرجين، أو يمسك العصا من الوسط، لكنه – اذا كان حقا يبحث عن الحقيقة- يجب ألا يفعل ذلك، ضريبة الجهر بالرأي مكلفة، والانحياز للضمير والمصلحة العامة واجب، والجرأة هنا مطلوبة.
لماذا؟ لأن مهمة الكاتب ليست توزيع المجاملات، أو تسجيل الإعجابات، أو الشعبوية ونيل رضا الجمهور، أو التصفيق للمقررات الرسمية، وإنما قول الحقيقة التي توصّل إليها، والانتصار للحق الذي يراه، وهو يتذكر، دائما، أنه ناطق باسم الضمير العام، وليس موظفا في دائرة الهوى العام.
الكاتب، هنا، حين يكتب في السياسة، ليس سياسيا، ولا طرفا في معادلات السياسة وصراعاتها، وليس لديه أي سلطة إلا بما التزم به من أخلاقيات المهنة، أو بما انتزعه، بفضلها، من قوة الرأي العام، وبالتالي فإن حرصه على استقلاليته، تفرض عليه أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، وألا يخضع لأي سلطة، سواء أكانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، سلطة الضمير، وحدها، هي التي تسعفه لتقدير المصلحة العامة، والكتابة بالشأن العام، مع مراعاة اختيار التوقيت، ومخاطبة الجمهور بالحسنى.
أعرف أن بعض القراء سيمدون ألسنتهم، ويتساءلون باستغراب: أين هو هذا الكاتب الذي تتحدث عنه، في واقعنا؟ موجود، صدقوني، وبأعداد ليست قليلة، لكن أليس من الواجب أن نسأل، أيضا، أين هو القارئ (والجمهور) الذي يبحث عن المقال الجيد، والمعلومة الصحيحة، ويثق بمن قدمها له، أو يعترض عليه باحترام، ودون إساءة؟
مشكلتنا في الكتابة، والقراءة، والنقد، والحياة العامة بمجتمعنا في معظم مجالاته، أننا تحولنا، للأسف، لمجاميع، نتبادل الكراهية والتشكيك، ونوزع مظلومياتنا بكل اتجاه، ولا نثق بأنفسنا لا ببعضنا، إلا في حدود تطابق الأهواء والمصالح، ولا نريد أن نسمع إلا أصواتنا فقط، فتش عن السبب، ستجد الإجابة فيما فعلناه، الدولة والمجتمع معا، من أخطاء
قاتلة، ما نزال نتعمد إنكارها حتى الآن.