عن ذلك الهمس المرتفع
مالك العثامنة
الحوارات في الداخل الأردني ليست مخفية، وصالونات عمان همسها "مرتفع ومسموع"، وهنالك شرخ عمودي في المجتمع، وهو نتيجة طبيعية لمجتمع مفروز منذ عقود لا يحميه إلا حضور مفهوم "الدولة" والدولة فقط.
لن نأخذ الهمس المرتفع كدلالة على ما نقول، بل يكفي أن نقرأ قراءة مسحية مقالات النخب الأردنية "المتعددة" في موضوع الحرب على غزة وكل ما يمكن تصوره من تداعيات واحتمالات "كارثية" في الضفة الغربية من النهر.
هناك محاكمات صورية للأفكار، وتهم التخوين جاهزة ومعلبة عند كل فريق ضد الآخر.
فريق يرى الخيانة في عدم الانقياد وراء حماس، ويعطيها الشرعية تحت مسميات بطولية فضفاضة عنوانها "المقاومة"، وهي مفردة سحرية تجد مكانها بسهولة أمام احتلال متغطرس ودموي، لكن تلك المفردة أيضا لها دلالات يجب تأطيرها لا إفلاتها على المطلق والمجهول.
حماس "فكرة"، كما قال وزير الخارجية الأردني ذات موقف "رسمي" واضح الغضب، لكن الفكرة ليست سياسة تجر وراءها دولة بكامل مؤسساتها. خاصة أن الفكرة نفسها متشظية على ذاتها بين مكتب سياسي "متعدد المرجعيات الإقليمية" وقيادة جناح عسكري متمكن في مهارات الهجوم المباغت وفاشل في كل خطوط دفاعه وحراسة مرماه من الأهداف القاتلة والمميتة والمتوحشة. ونعم، هي ليست لعبة تسجيل نقاط وأهداف.
وهناك فريق انعزالي يتمترس خلف سواتر ترابية من العاطفة الوطنية، يلقي تهمة التخوين على أسس غير منطقية ولا موضوعية يرى فيه الأردن قويا بانعزاله عما يؤذيه، وهي فكرة صوفية لا تتجاوز الإنشائيات وتتكسر كزجاج هشّ أمام واقع مختلف يضع الأردن بالضرورة الجغرافية في قلب العواصف الإقليمية التي تحركها المصالح الدولية.
قبل السابع من أكتوبر، كانت الدولة الأردنية تدخل مئويتها الثانية بمنظومة إصلاح سياسي وإداري قد يقود إلى إصلاحات لاقتصاد يعاني ما يعاني، وتجهزت "الدولة" بمنظومة تشريعات جديدة ونوعية لخوض مرحلة مختلفة وبالتدريج لتغيير الواقع السياسي ومن بين المعطيات التي دار الجدل حولها كان مفهوم "الهوية الجامعة" التي واجهت أول اختبار لها في تداعيات أحداث غزة.
كان العقل السياسي للدولة الأكثر تيقظا وتنبها لمتغيرات الإقليم، والتحذيرات الأردنية الرسمية المعلنة كانت بصوت مرتفع حول انفجار وشيك سيحدث غرب النهر، وجاء المتوقع من غزة، وإسرائيل تتحمل المسؤولية بمزاجها اليميني المتجلي بحكومة تطرف تتقن إدارة التوحش، والذي حشد كل اليمين المقابل له في صراع دموي نراه اليوم.
وفي كل ما حدث بعد ذلك منذ السابع من أكتوبر، كانت الدولة الأردنية تمارس وبمهارة "إدارة مواجهة التوحش" وكان التصعيد الأردني سياسيا ودبلوماسيا أكبر بكثير من بيان تنديد وشجب، ومن لا يلمس التأثير الأردني على حالات تغيير المواقف والاستدارات الإقليمية والدولية ليس أكثر من مرتهن لمواقف عمياء متصلبة أو في أسوأ الأحوال "وهذا موجود" هي فئة كامنة تتربص اللحظة لاستهداف كل مفهوم "الدولة" في الأردن.
شخصيا، لا أحب عبارات التخوين، ولكل إنسان حقه في تكوين رأيه ومواقفه حتى المعارض منها للسياسات الرسمية، لكن الانضباط تحت مظلة الدستور والقانون هي الحالة الوحيدة التي أرى فيها الفرز واجبا، بين أردنيين "أيا كانت أصولهم" يؤمنون بالدولة كمفهوم وكيان وهوية جامعة، أو غيرهم.