واجب التذكير بالدولة الأردنية وبُناتها وشهدائها

حسين الرواشدة


لا أجد مناسبة أوجب من هذه المناسبة ، ولا ظروفاً اخطر  من هذه الظروف التي يمر بها بلدنا ، للتذكير بجيل الآباء والاجداد الذين بنوا الدولة ، ورفعوا مداميكها حجرا حجرا ، والشهداء الذين جبلوا ترابها بدمائهم الزكية،  فنحن جميعا مدينون لهم بالتقدير والتكريم والاحترام ، وللتذكير ، ايضا ، بضرورة استدعاء  التاريخ الأردني الحديث ، تاريخ الدولة الحديثة  ، لا تاريخ الأردن الممتد لآلاف السنين ، والدولة الوطنية في عصرنا بمثابة " الاب "، فهي الموكلة برعاية الناس وتدبير شؤونهم واستيعاب اختلافاتهم ، وبدونها تتحول المجتمعات الى غابات ، ويتوحش الناس كما كانوا في غابر الازمان .


في سياق هذا التذكير الواجب ، أقول: ان " ثنائية الدولة والابوة" هي المعادلة المفترض ان نبحث عنها ، ونحن نمر بمنعطف تاريخي ،ربما لم يسبق أن واجهناه ،  لانها الوحيدة التي تجيبنا ،بكل وضوح،  على أسئلة الناس المعلقة ، حول الهوية والوجدان الشعبي ، والحرية والعدالة والإصلاح ، وحول الصمود والهزيمة والانتصار، فالدولة التي تأسست في مطلع العشرينيات استطاعت ان تجمع "شمل " الأردنيين وتحفظ كرامتهم ، كرامة المعركة والمشروع والإنسان، استنادا الى قيم ومبادئ لا مجرد مصالح فقط ، والأردني الذي كان يعض على جرحه من الفقر كان يثق بالدولة ، دولته ، ويحبها ، لانه كان يدرك انها لا تبخل عليه ، حيث "الجود من الموجود " ، وحيث الجميع على منصة الفقر او الاكتفاء والستر سواء .


قلت :  يثق الاردنيون بالدولة ( الوطن) ، دولتهم ، ويحبونها ، ولا يترددون عن التضحية من اجلها بأغلى ما يملكون ، ‏وما فعله شهداؤنا على أسوار القدس يعرفه الجميع ، ‏كما ان ما  فعله الأردنيون الشجعان ، على أسوار قلعة الكرك وفي الغور والسلط والركبان وعلى تراب الأردن كله، مشهود ايضا  ، هذه الثقة،  وذلك الحب غير المشروط ، كانا وقاما حين تمثلت الدولة بكل تفاصيلها وحركاتها بصورة " الاب " ، ‏أرأيتم أحدا لا يثق بأبيه او لا يحبه ؟ وكذلك كان الأردنيون تجاه دولتهم ونظامهم السياسي ، وعرشهم الهاشمي الذي شكل ، وما يزال، قاسما مشتركا بينهم ، ومرتكزا لاستقرارهم وأمنهم.


‏لا أريد أن أُقلّب المواجع ، ‏لكن حان الوقت ، الآن، أن  نستعيد ذلك التاريخ الأردني الذي تجسد في آبائنا وأجدادنا ، ‏وقتها كان في كل بيت معلم ومزارع وجندي ، وكان في كل قرية ومخيم وبلدة وسيط اجتماعي برتبة"  شيخ " حقيقي يمثل المجتمع أمام الدولة ،  حيث لا فرق بين الدولة والمجتمع ، كان ثمة وجدان شعبي تشكله الأغاني الوطنية الصادقة التي رددها عمالقة الغناء الأردني على أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية ، كان ثمة فنانون  ومثقفون على  المسرح وفي المسلسلات،  يجتمع الأردنيون على فنونهم الراقية ،  كانت الوطنية دمغة يعتز بها الموظفون والمسؤولون والمواطنون حتى وإن اختلفت اتجاهاتهم السياسية ، حتى وإن دخلوا السجن ،  كان ثمة مجتمع حي يتحرك ويتضامن ، ويساعد بعضه ويثق بالدولة .. وتثق به أيضا .


‏قبل أن تداهمنا الوصفات المغشوشة للتحول إلى دولة الإنتاج التي طوت ، فجأة، صفحة "رعاية الدولة" ، وقبل أن يبدع الذين سقطوا بالبرشوت على بعض المواقع في العبث بنسيج العشيرة ، ‏والتلويح بتجديد العقد الاجتماعي ، والصراخ ، مجرد الصراخ،  من أجل استعادة ثقة الناس بحكوماتهم ومؤسساتهم ، ‏كانت "أبوة " الدولة التي تأسست عليها وكذلك قيمها ،  سماحتها ، واعتدالها ، وتعاملها بمنطق الرحمة مع الناس بمثابة " السحر "  الذي حافظ على الدولة ، على الرغم مما واجهها من عاديات ، والمركب الذي عبرت عليه – عباب البحر – رغم الأمواج العاتيات .


تريدون أن يخرج الأردنيون من خزانات  القهر والمظلومية ، وانقسامات الهوية، ومراجل الانتقام، ومن وطأة " اللاثقة "والعزوف عن المشاركة والعمل العام ؟ تريدون أن نتعافى ويلتئم الشمل الوطني ويبدع شبابنا ويتحرروا من الحداد العام؟ ارجوكم أعيدوا لهم " أبوة الدولة"، ابحثو عن رجالاتها الصادقين ، وقدموهم إلى  المواقع والصفوف الاولى، حرروا شبابنا من خوفهم على حاضرهم ومستقبلهم  وأعيدوا لهم "الأردن الوطن"  الذي يفتخرون به ويضحون من اجله بأرواحهم ، فبلدنا مليء بالخيرات  والموارد والطاقات ، ولا ينقصه إلا انتصاب موازين العدالة ، والتحرر من الغنيمة السياسية،  وطوابق الفساد والنضال المغشوش ، والنفاق والانتهازية والعطالة .  


هل وصلت الرسالة؟ قولوا : آمين