هل تسهم المقاطعة في صناعة انحياز مستدام للمنتج المحلي؟
كتب أحمد أبو خليل
لا جدال حول أن حملة مقاطعة منتجات الشركات الأوروبية والأمريكية المتهمة بدعم "اسرائيل"، والتي تلت بدء العدوان على غزة، حققت هذه المرة نجاحًا ملحوظًا غير مسبوق في الأسواق الأردنية، من حيث مدى شمول الحملة واستمرارها طيلة فترة العدوان المتواصل حتى الآن.
بالتوازي مع حملات المقاطعة تلك، انتشرت حملات تدعو إلى اعتماد بدائل لتلك السلع، وفي هذا السياق انتشرت على وجه التحديد دعوات لاعتماد البديل من "صنع محلي" إذا توفر.
من حيث الشكل، لوحظ في الأسواق عمومًا أنه أضيفت وسيلةُ ترويج فرعية وجديدة للبيع عنوانها: "هذا منتج محلي الصنع"، وهو ما يُعد ظاهرة تسويقية جديدة. ذلك أنه في الغالب كان من الدارج أن الإشارة إلى كون السلعة "مستوردة" وخاصة إذا كانت أوروبية أو أمريكية، كانت بمثابة عنصر ترغيب للزبائن. لكن مع انتشار المقاطعة بادرت أسواق ومتاجر كبيرة إلى وضع إشارات مكتوبة ومتكررة بشكل بارز قرب أرفف السلع المحلية، كما أعادت ترتيب أولويات خزائن العرض بحيث أعطت موقعًا متقدمًا نسبيًا لبعض السلع المحلية. كما وشمل هذا السلع من منتجات الدول التي اعتبرت صديقة أو على الأقل غير داعمة للعدو.
أكد كل من سألناه من العاملين في المتاجر على ملاحظة حصول تغيير في سلوك المشترين، لقد أصبح تفقُّد بلد الصنع ضروريًا، ويعمد كثير من الزبائن إلى الاستعانة بهواتفهم النقالة للتأكد إن كانت سلعة ما موجودة ضمن قوائم السلع المقاطعة، وذلك بعد أن بادر نشطاء إلى تعميم تلك القوائم على وسائل التواصل، وقد شمل السلوك الجديد هذا، وبشكل خاص جيل الشباب بل والأطفال أيضًا، الذين صاروا ينبهون آباءهم أو أمهاتهم إلى ضرورة التأكد قبل الشراء. وفي السياق أعلنت غرفة الصناعة عن تطبيق خاص بالترويج للصناعة المحلية.
مشهور عمش، مدير التسويق في إحدى الشركات العاملة في مجال صناعة المنظفات، يرى أن هناك تبدل فعلي إيجابي في موقف المواطن تجاه المنتج المحلي، وهو شامل لمختلف المناطق؛ في العاصمة خارجها، ووفق تجربته فقد انعكس ذلك بشكل ملحوظ على المبيعات. مع إشارة خاصة بأسواق عمان، حيث كان ارتفاع الإقبال ملحوظًا أكثر في مناطق غرب عمان، في المواقع التي كان الجمهور معتادًا على السلع الأجنبية، بحكم توفر المقدرة المالية، بينما في شرق عمان فإن شراء السلع المنتجة محليا في مجال مواد التنظيف كان منتشرا نسبيا.
غير أن مشهور عمش حرص على الإشارة إلى حالة الركود القائمة مسبقًا في الأسواق والتي ازدادت بعد العدوان، وعلى ذلك فإن زيادة البيع المشار إليها لا تعني إقبالا عاليا بقدر ما تعني نسبة مقارنة فقط. وفي حين أنه يؤكد أن ظاهرة الإقبال على المنتج المحلي هذه هي جديدة وغير مسبوقة، لكنه يتوقع أنها مؤقتة، وأن ديمومتها قد تكون صعبة، لأن المنتج الأجنبي أقوى تسويقيًا ويستطيع أن يكون مرنًا في وسائله، وتساعده إمكاناته المالية العالية على تمويل حملاته الدعائية.
أمجد الزبن، صاحب محل كبير نسبيًا متخصص في المنظفات والمستلزمات المنزلية، أكد فاعلية المقاطعة وزيادة الإقبال على المنتج المحلي، ولكنه أيضًا يرجح أن الأمر مؤقت إلا إذا غيرت المصانع خططها، من حيث تحسين جودة المنتج ومن حيث شمول البدائل وتطوير سياسات التسويق وخاصة لجهة النظرة الأبعد، لأن البائع كحلقة وصل بين الصانع والمستهلك، له متطلبات لا يوفرها صاحب المصنع المحلي الذي قد لا يتحمل تكاليف تحسين التسويق.
غير أن أمجد لاحظ مبادرة إيجابية فيها قدر من الجرأة، حيث سارع أحد المصانع المحلية لسد فراغ في منتج لم يكن يصنع محليا، بمعنى أنه لم يكن له بديل، وهو "أقراص" تستخدم في الجلايات الكهربائية، وقد سارع المصنع إلى تقديم منتجه الجديد بالفعل. وفي المجال ذاته أشار مشهور عميش أن مصنعهم أنجز الاستعداد اللازم لصناعة المادة نفسها. كما لاحظنا أن بعض الأصناف الغذائية التي كانت تقتصر على منتجات شهيرة أجنبية، وقد أصبحت ضمن السلع المقاطعة، لكن مصانع محلية سارعت إلى توفير بديل لعلها تستفيد من الموقف الجديد.
سهيل النبهان، المقيم في محافظة اربد، وقد عمل في مجال تسويق المنتجات الغذائية لأكثر من خمسة وعشرين عامًا ولا يزال متابعًا لحالة الأسواق، يؤكد أن ما يجري ظاهرة جدية وجديدة ومؤثرة وتلفت انتباه التجار، غير أنه يلاحظ غياب مرونة مزودي المنتجات الذين لا يبدون اهتمامًا طويل الأمد، وبعضهم يرى في الأمر مجرد فرصة للبيع الواسع، وتحقيق مكاسب في اللحظة الحالية. وهو كغيره يدرك تبعات البناء طويل المدى على الظاهرة.
الصناعة المحلية والترويج الصعب
لفهم مستجدات الظاهرة، قد يكون مفيدًا الإشارة إلى أن حملات الترويج للمنتجات محلية الصنع مرت بتجارب سابقة من خلال حملات مصممة مسبقًا وذات أهداف وطموحات واعية، بمعنى أنها تختلف جوهريًا عن الحملة الحالية التي جاءت بمبادرة "من أسفل" إذا صح التعبير، أي انطلاقا من الأوساط الشعبية والنشطاء المهتمين، أي من الزبائن أنفسهم.
لعل أبرز تلك الحملات تمثلت في الحملة التي أخذت عنوان: "صنع في الأردن" والتي انطلقت في حزيران 2013 واستمرت فعالة لنحو سبع سنوات ولا تزال عمليًا قائمة وإن بوتائر أقل، من خلال موقع إلكتروني خاص بالحملة.
يقول موسى الساكت، مؤسس تلك الحملة، إن نشاطها غطى كافة قطاعات الصناعة المحلية، وأن جهات عديدة داخل وخارج قطاع الصناعة اشترك في الحملة، فقد اشتركت وزارة التربية والتعليم وهيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين وأمانة عمان الكبرى وغيرها، كما انتقلت انشطة الحملة بين المحافظات. وقد استخدمت الحملة شتى أشكال ووسائل العمل الدعائي والإعلامي. وقد حققت الحملة، بحسب الساكت، بعض النتائج الترويجية، فهي بالمحصلة حملة إعلامية، وقد أسهمت في التعريف بالمنتج الوطني، غير أنه من الصعوبة التعرف على نتائج تتصل بما حققته فعليا في الأسواق.
الساكت أشار إلى أن مسألة المنتج الوطني مسؤولية ثلاثة أطراف: المُنتج، والمواطن، والحكومة. وهذه الأطراف ذات أدوار تكاملية. ولفت إلى أن البعد التنموي يتطلب أن تتحقق زيادة في نسبة مدخلات الإنتاج المحلية، فهي بالإجمال لا تزيد عن 30% وهذا خلل ينبغي حله، ولكن هذا يحتاج لتفكير أشمل واستراتيجيات كلية أخرى، لأن الانتقال إلى الصناعات الأولية التي توفر مدخلات إنتاجية هو نشاط اقتصادي من طبيعة أخرى ويحتاج لتدخلات وإجراءات رسمية.
وبحسب دراسة صدرت عام 2020، أي بعد سبع سنوات على انطلاق الحملة، فإن مكانة المنتج المحلي لا زالت متدنية مقارنة بالمنتجات الأوروبية والأمريكية.
هل يمكن البناء على هذا التغيير؟
وفق مبادئ العلوم الاقتصادية، هناك محددات للقرار الاقتصادي الرشيد عند الفرد، سواء كان مستهلكا أو مستثمرًا أو مدخرًا، من بينها ما يعرف بحسابات المنفعة والتكلفة، وهي حسابات يجريها الفرد على مدار الوقت، وعلى ذلك بني مفهوم "الخيار العقلاني" الذي يركز على حجم العائد أو المنفعة المتوقعة على المستوى الشخصي.
غير أن اتجاهًا جديدًا نسبيا بات يتحدث بقوة عن دور العوامل النفسية والاجتماعية وأثر ذلك على القرار بما قد يكون له أولوية على عناصر رشدية القرار بالطريقة الموصوفة أعلاه. صحيح ان دور العوامل النفسية والاجتماعية معروف مسبقًا ورافق تطور العلوم الاقتصادية، إلا أن الأمر نمى وتطور إلى درجة قيام فرع خاص اسمه "الاقتصاد السلوكي"، أخذ يتنامى منذ العقود الثلاثة الأخيرة للقرن العشرين، ويسعى إلى دمج مداخل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا مع علم الاقتصاد بهدف فهم أعمق للظواهر الاقتصادية.
وفي كتابه "المجتمع والاقتصاد. إطار ومبادئ" يشرح مارك غرانوفيتز كيف إن الفعل أو القرار الاقتصادي عند الفرد أو الجماعة، قد يخضع لمنظومة المعايير الاجتماعية السائدة، فقد يكون للناس تصور ما عن طبيعة هذا الفعل أو كيف يجب أن يكون، وهو تصور قد يلغي أو يتجاوز أو يعدل الفعل الاقتصادي ويباعد بينه وبين مقتضيات فكرة القرار الرشيد. (أنظر المجتمع والاقتصاد. إطار ومبادئ. تأليق مارك غرانوفيتز. ترجمة ابتهال الخطيب. الكويت. 2021).
يؤكد غرانوفيتز أن المعايير الاجتماعية تكون ملزمة بشكل أساسي من خلال تأثيرها في العواطف: إنها تكون معززة بمشاعر الإحراج والتوتر والشعور بالذنب والعار التي يعاني الشخص احتمال انتهاكها، وقد يشحن أيضًا الشخص الملتزم بمعيار ما بالعواطف الإيجابية... إن المعايير الاجتماعية "تبسط قبضتها على العقل بسبب العواطف القوية التي تستطيع إثارتها".
وفي عام 2015 أصدر البنك الدولي تقرير التنمية لذلك العام بعنوان "العقل والمجتمع والسلوك" وضع فيه بعض المبادئ السلوكية للفرد والجماعة في الميدان الاقتصادي وقد بنى أفكاره من خلال بعض التجارب الفعلية في بعض الدول وخاصة في العالم الثالث.
لهذا، صحيح ان الحدث الرئيسي عنوانه "العدوان على غزة"، او المقاومة في غزة، وهو حدث سياسي كبير عالمي، وصحيح أننا في الأصل أمام ظاهرة التضامن مع غزة والاحتجاج ضد العدو، وأن المقاطعة هي واحدة من أدوات هذا الموقف العام، وأن الانحياز للمنتجات "الصديقة" وبصورة رئيسية، للمنتجات المحلية، كان واحدًا من النتائج او الظواهر المرافقة، إلا أن كل هذا مرتبط بشكل كبير بعناصر ذات بعد ثقافي، نفسي واجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.
لذلك، أبدى مؤسس حملة "صنع في الأردن" موسى الساكت اعتراضه على تجاوز العوامل السياسية عند أصحاب القرار الاقتصادي في البلد. وأكد أن العامل السياسي ينبغي أن يكون حاضرًا حتى عند النظر إلى المخاطر التي قد تؤثر على النشاط الاقتصادي ونتائجه، وقد أشار مثلا إلى مسألة التركيز الدارج رسميا على قطاع السياحة، بينما نحن في منطقة تشهد التوترات بما يقود إلى هشاشة المشاريع والخطط.
من المعروف أن إحداث تغييرات في العوامل النفسية والثقافية العميقة يعد من الأهداف المعقدة، فهي ليست مجرد جهد ترويجي أو إعلامي أو ثقافية أو "توعوي" وفق المفردة الدارجة في البلد.
إن المواطن المتسوق، يدخل ببساطة إلى المتجر، ويرى أمامه طيفًا من المنتجات متفاوتة الجودة والسعر والبريق والسمعة، ويعرف قدراته المالية، وهو يجري حساباته الخاصة، فإذا كانت نتيجة هذه الحسابات "العقلانية" توصله إلى شراء سلعة أجنبية، فما الذي يمكن أن يدفعه إلى شراء سلعة محلية؟
ينسحب هذا المنحى من التفكير إلى طرفي المعادلة الاقتصادية الآخرَين: المستثمر والمدخر، إضافة إلى المستهلك.
لست معنيًا هنا في التوسع في تفسير عوامل أو أسباب الوضعية المتدنية للسلع المصنوعة محليًا. هذا فضلا عن أن نقاش الصناعة المحلية يتطلب استحضار عناصر أخرى تتعلق بالسياسات الكلية والتمويل وتطوير الخبرات وتحمل تبعات تحسين الجودة، بقدر التوقف عند موقف المستهلك وامكانية تشكيل انحياز "ايجابي" عنده تجاه المنتج المحلي، حيث يحضر فورا إلى النقاش العنصر النفسي الفردي والجماعي، المتشكل والمتطور تاريخيا.
في حالتنا الراهنة، نحن أمام ظاهرة حصول تغير نفسي ثقافي جاء بضغط من أسفل ولم يخطط له أصحاب القرار المستفيدون، بشكل مسبق وقصدي.
إن هذا التغير بطريقته التي تحقق بها، تسمح بطرح مسألة البناء عليه واستثماره وجعله ممتدا على المدى الأطول، إنه تغير سابق لقرار المنتجين والصناعيين، ويمكن أن يكون ضاغطًا باتجاه قرار مناسب ومفيد ومجد اقتصاديا. إن الصناعة المحلية أمام إنجاز لم يكلفها أي جهد أو مال أو تفكير. والتغيير تحول إلى ما يشبه المطلب الشعبي الكامن، ولكنه إلى الآن ذاتي غير قادر على الاستمرار وهو قابل للتوقف أو التراجع، وعلى باقي الأطراف ملاقاته في منتصف الطريق.
كل الأطراف ذات الصلة ينبغي أن تتكامل معا: الحكومة كصاحبة قرار كلي فيما يخص الرسوم والضرائب، والصناعيون أنفسهم، والمشتغلون بالأهداف الوطنية الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية، والمستهلكون.
كما ينبغي التوصل إلى معادلة بين مصالح الضدين: التاجر المستورد من جهة والمُصنّع من جهة ثانية.
من المرجح أن استحقاقات وتداعيات التضامن مع غزة وضعتنا أمام سؤال تنموي مُلِح.