اليسار الاجتماعي .. هل من مستقبل؟
الدكتور صبري ربيحات
أحزاب اليسار في الأردن ظاهرة تستحق التوقف والإمعان فقد كانت جذابة للشباب والمثقفين والكثير من الحالمين في مجتمع يسوده العدل والاشتراكية والوحدة. كان الحزب يعمل في الخفاء يقدم منشوراته ويبث شعار المنجل والشاكوش الذي طبع على البيانات والمطبوعات.
كان اعضاء الحزب يعملون ككل الدعوات السرية يحملون بعض المنشورات والبيانات ويحاولون بثها بين المناصرين او من يطمعون في تجنيدهم ويعملون جاهدين على ان يخفونها عن أعين المخبرين والبوليس السري وبعض الشباب الجامعي الذين كانوا يعتاشون من نقل الاخبار بعدما انخرطوا في خدمة الجهد الهادف لمحاربة الشيوعية. كان لدينا قانون يحمل اسم قانون محاربة الشيوعية او مقاومتها.
مع كل ذلك كانت نشرة "الحصاد" ونشرة "طريقنا" تصل الينا.. كنت طالبا في الاردنية في سبعينيات القرن الماضي وكنت اناقش الأساتذة حد الضجر وكان بجانبي زميل لم أعرف أنه شيوعي وذات يوم دعاني بعد محاضرة إدارة الصفوف التي كانت تنعقد عند الثامنة صباحا.. خرجنا معا بعد المحاضرة الى الكافتيريا لتناول سندويشة الجبنة وكأس الشاي الذي كان يباع بأربعة او خمسة قروش وبعدها تسللنا الى الغابة المجاورة ليخرج من تحت قميصه منشور طريقنا ويطلب مني ان اتصفحه واعيده بعدما تيقن من اني غير مرتبط بالأجهزة الامنية مثل أصدقائي الذين كانوا يرصدون كل شيء ويكتبون في كل شيء..
تصفحت المنشور ولم ار فيه شيء مهم سوى كلام كبير لم يعني لي شيء. شكرته وأعدت اليه المنشور الذي اعاده الى المخبأ المعهود وانصرفنا وعدت للعبتي المفضلة المتمثلة بالقراءات الفلسفية والحوارات. نعم لقد قرأت عمانوئيل كانط ونيتشه وسارتر وداروين وشوبنهاور وآدم سميث وماركس وكنت ادخل الى الصفوف وانا متخم بالأفكار التي تحتاج إلى نقاش وابحث عن أي استاذ لديه ما يكفي من الوقت لنتناقش.
كان الدكتور إبراهيم عثمان والمرحوم الدكتور قاسم الريماوي ومحمد سعيد أبو هنطش وسري ناصر وعادل ظاهر يمنحوننا بعض الوقت للنقاش.. لكنهم يتحفظون عندما يتعلق الامر بكارل ماركس او الفكر الشيوعي الذي غالبا ما كان يناقش في اوساط الطلبة من اعضاء الفصائل الفلسطينية..
كان يعجبني ايقاع الشعارات الماركسية لكنها تخيفني لغرابة ما يتعلق بها اذا ما تخيلت ايقاعه على نظامنا الاجتماعي المؤسس على الدين والتقاليد..
حقيقة الامر انني لم أر في كل الذين ينادون بالشيوعية الا رفضهم للواقع ورغبتهم في التمرد تحت غطاء افكار كانت غريبة..
في السنوات التي تلت التخرج من الجامعة اصبح صديقي أستاذا جامعيا مرموقا وقابلته بعد اكثر من عقدين وقد عاد من الولايات المتحدة واستدار تاركا فكره الثوري ليصبح رجل اسرة محافظة. احتراما لمشاعره لم اسأل عما اذا كان لا يزال على عهدي به لتأتيني الإجابة لاحقا عندما عاد كل اصحاب الفكر الثوري ليجلسوا في أحضان المؤسسات التي وصفوها ذات يوم بالرجعية.
شهوة هؤلاء للسلطة ومذاق ترفها بعد تحولهم دفعت ببعضهم لاعتماد منهجية "العدو مع الذئب والبكاء مع الراعي" فتجدهم في السلطة وفي فلكها وخدمتها ومع ذلك يريدون ان يؤسسوا ويديروا احزابا تقوم على فكرة مراجعة علاقات الإنتاج بحيث يطال ذلك مواقعهم وامتيازاتهم.
في الانتخابات الاخيرة ظهرت ازمة هذا التيار فقد تمسك اقطابه بموقعهم وامتيازاتهم وبحثوا عمن يقوم بالترشح ليتطلعوا له من بعيد وليذكروا الناس بانهم اصحاب فكر وايدلوجية كانوا قد غادروا مركزها منذ زمن بعيد..
في خلطة هذا التيار ظهر التباين بين الفكر الذي كان رائجا ذات يوم لما كان العالم مختلفا في شكله وتركيبته وشخوصه وعالم اليوم الذي تطغى فيه المصالح فيحافظ البعض على الادبيات القديمة ويداه مشتبكة مع كل المغريات التي توفرها المعادلات التي بررت الدعوة لتغييرها كل التنظيم والتحشيد.
عمق ازمة التيار الذي كنت اتمنى ان ارى حضوره على المشهد لتكتمل صورة التعددية تتجسد في ضعف البناء وتخلي الرموز وعمل بعض الأركان المؤسسة باتجاه قلل من فرص نجاحه..
اظن ان التيار يحتاج إلى أكثر من استقالة الأمين العام فهو بحاجة الى تجديد او فرهلة شاملة تطال تغيير كل الاسماء والاطياف التي اجتمعت على تأسيسه بالرغم من تباين أفكارها واهدافها ومشاربها ومظاهرها.