"جاكسون هول" يرسم مصير الفوائد والتضخم والأزمات المالية المقبلة

{title}
أخبار الأردن -

خالد القصار

يقال إن لدى صانعي الأفلام مهرجان كان، والمليارديرات لديهم منتدى دافوس. أما الاقتصاديون ورؤساء البنوك المركزية في العالم، فلديهم "جاكسون هول". هذا ما يستنتج عند كل قراءة لتعريف الاجتماعات وأهميتها التي لا تضاهى في عالم البنوك المركزية والمصارف، ولا سيما عند متابعة ما تتمخض عنه هذه الاجتماعات عادة من ردود أفعال في مؤشرات أسواق الأسهم والسندات خصوصا.

تنعقد اجتماعات "جاكسون هول" هذه السنة في المدينة التي تحمل الاسم نفسه في ولاية وايومنغ الأميركية، من الثاني والعشرين حتى الرابع والعشرين من الشهر الجاري، على وقع خضة اجتاحت أسواق المال والمستثمرين في العالم قبل أسبوعين بعد تقرير مخيب للتوظيف في الولايات المتحدة، وتشديد اليابان لسياستها النقدية، مخلفة وراءها كما هائلا من المقترضين ذهبت أرباحهم أدراج الرياح بين ليلة وضحاها.

بعد "خضة الاثنين" في الخامس من الشهر الجاري، شخصت الأبصار إلى بنك الاحتياطي الفيديرالي ترقبا لقرار طارئ بخفض الفائدة كنوع من ضخ جرعة إنعاش وطمأنة الأسواق، وسط اتهامات بتقاعسه عن هذا القرار متخلفا عن بنوك مركزية رئيسة أخرى في العالم، منها بنك إنكلترا، إلا أن ذلك لم يحصل. حافظ الفيديرالي على هدوئه مصرا على احترام مواعيد اجتماعاته المقررة للبحث في موضوع الفائدة، أي في سبتمبر/أيلول المقبل.

وجرت العادة كل سنة، ومع اقتراب موعد اجتماعات "جاكسون هول"، أن تحبس الأسواق العالمية، "وول ستريت" تحديدا، ومعها المستثمرون، الأنفاس، لمعرفة الوجهة التي يتحركون بها، صعودا أم نزولا، تفاؤلا أم تشاؤما، شراء أم مبيعا، فرحا أم تجهما.

الأسواق تضغط على “الفيديرالي”

لكن في 2024، يبدو أن الأسواق هي التي ستحدد، إن لم نقل ستفرض، ما يضعه الفيديرالي على طاولة الاجتماعات. فعدم تحركه المباشر لا يعني أن الخيار لا يزال بيده لجهة إبقاء سعر الفائدة على حاله أو خفضها. إنما قراره بالتروي في الإقدام على التجاوب لمطلب الأسواق فمرده ثلاثة أسباب:

الأول، أن رد فعل الأسواق على تقرير التوظيف كان مبالغا به ولا يستند إلى تحليل متكامل، وقد ثبتت تلك النظرية في اليوم التالي بعد إعلان محللين اقتصاديين في "غولدمان ساكس"، ومعهم صاحبة قاعدة "سام" نفسها، أن عوامل مختلفة ساهمت في ارتفاع معدل البطالة، وأن الركود ليس في قائمة الأسباب أو التوقعات.

أما الثاني، فهو أن البيانات الاقتصادية الحالية لا تبرر خفضا طارئا في أسعار الفائدة، وأي تحرك سريع في هذا الإطار لن يؤدي إلا إلى إطلاق جولة جديدة من الذعر في الأسواق.

ويتمثل السبب الثالث في مهمات الفيديرالي المنوطة به قانونا، وهي تطويع سياسته في خدمة التوظيف واستقرار الأسعار، على حد قول رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي في شيكاغو أوستان غولسبي. أما الحفاظ على استقرار الأسواق المالية فليس من ضمن هذه المهمات.     

فهل يلبي باول ما يصبو إليه الأميركيون والعالم الأجمع في البدء برحلة خفض الفوائد وتأكيد ذلك في خطابه في اجتماعات "جاكسون هول" الخميس المقبل؟

"جاكسون هول" تاريخيا

في نظرة الى تاريخ تلك الاجتماعات، هي ترصد من أجندات الاقتصاديين الكبار وصناع السياسات النقدية وخبراء المال والمستثمرين، إضافة الى رؤساء البنوك المركزية وفي مقدمهم البنك المركزي الأميركي بفروعه الاثني عشر، والبنك المركزي الأوروبي وبنوك إنكلترا وسويسرا وكندا وأوستراليا، وغيرها من وزراء مال واقتصاديين وأكاديميين وفاعلين في أسواق المال من أكثر من 70 دولة. تُعَدّل مواقيت مسؤوليات هؤلاء جميعا على أساسها، كي لا يفوتهم قطار السياسات النقدية والمالية المرسية للاستقرار العالمي، على الرغم من أنها تكتيكات قصيرة الأجل لطالما عصفت بها المتغيرات السياسية والأزمة الاقتصادية في العالم. 

تطغى خلال هذه الاجتماعات نقاشات معمقة حول الاستقرار المالي العالمي، وإعادة الهيكلة المالية للدول، والسياسات النقدية للدول، وآفاق النمو الاقتصادي العالمي بشكل عام. كما كانت مناقشاتها تتطرق الى مشكلات الموارد الطبيعية، لا سيما المياه، والزراعة، وكلها معضلات لم تجد سبيلا الى الحلول المستدامة حتى اليوم.    

من المجرمين إلى أصحاب الملايين

ينظم اجتماعات "جاكسون هول" منذ عام 1978 الاحتياطي الفيديرالي لمدينة كنساس في الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى مدينة جاكسون هول في عام 1982، لتعقد في مدينة اعتادت أن تكون مرتعا للخارجين عن القانون في عشرينات القرن الماضي، حيث قالت فيها صحيفة "نيو يورك تايمز"، "كلما ارتكبت جريمة خطيرة بين نهر المسيسيبي وساحل المحيط الهادئ، كان من السهل جدًا التخمين أن المسؤول عن تلك الجريمة إما يتجه إلى جاكسون هول أو وصل إليها بالفعل".

اليوم، تستضيف هذه المدينة في فندق أنيق تبرع به للحديقة الوطنية المحيطة به أحد أفراد عائلة روكفلر، عددا كيبرا من أصحاب الملايين يفوق عدد مجرمي ذلك العصر، وأصبحت المكان الأكثر تفاوتا في أميركا، مع وجود فجوة كبيرة في الثروة والدخل. وتعمق الاهتمام بجاكسون هول بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين أنقذت البنوك المركزية الأسواق ودعمت الاقتصادات على نحو أدى إلى توسيع نفوذها.

يقال إن الهدف من تلك الاجتماعات مناقشة معضلات اقتصادية تواجه الاقتصاد الأميركي وكذلك الاقتصاد العالمي على أعلى المستويات. وتتأثر أسواق الأسهم والعملات العالمية، استنادا إلى تصريحات غير متوقعة لشخصيات وازنة خلال تلك الاجتماعات.

ما أشبه الأمس باليوم

اللافت، أن معظم المواضيع التي تناولتها الاجتماعات منذ ثمانينات القرن الماضي، لا تزال صالحة حتى يومنا هذا، فالأزمات تتكرر، ربما في بيئات وسيناريوهات مختلفة، لكن المعالجة غالبا هي نفسها، فهل تصح في كل زمان ومكان؟

في العام المنصرم، ومع تواصل الحرب الروسية الأوكرانية، في وقت لا تزال معدلات التضخم تعد مرتفعة على الرغم من تجاوبها مع سياسة التشدد النقدي التي عمت أرجاء المعمورة، كانت أنظار "وول ستريت" شاخصة إلى خطاب حاكم الاحتياطي الفيديرالي، جيروم باول، وما إذا كانت أسعار الفائدة ستستمر في الارتفاع، وسط ضبابية محيطة بصناع السياسات جعلت الخيارات مفتوحة على احتمالات عدة. وقد انخفض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" (S&P 500) بنحو 4 في المئة على إثر الاجتماعات يومها بعد ارتفاعه بنسبة 14 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، حيث عمد المستثمرون والمتداولون إلى بيع أسهمهم خوفا من تضييق إضافي في السياسة النقدية. ومعلوم أن تصريحات كهذه، أو حتى تلميحات، يمكن أن يكون لها تأثير مضاعف عبر الأسواق العالمية.

وبقيت السياسات النقدية على تشددها، لتصطدم في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بالحرب الدموية المفتوحة على غزة بدعم أميركي مباشر، التي أثارت الرأي العام العالمي، تبعتها أزمة البحر الأحمر التي أرخت بظلالها على التجارة العالمية لجهة تراجع الفاعلية وارتفاع التكاليف، مع المناوشات الحربية للحوثيين ومن خلفهم، والتحالف الغربي الذي يقف عند حافة الغرق في أتون حرب جديدة لا أفق لها. كل هذه التطورات، كانت نتيجتها متوقعة قبل اجتماعات هذه السنة، لجهة عدم قدرة الاحتياطي الفيديرالي على الوفاء بخطته خفض الفائدة ابتداء من أول السنة الجارية، فبقيت على ثباتها منذ يوليو/تموز 2023 عند 5,25 في المئة و5,5 في المئة، مترافقة مع ارتفاع حال "عدم اليقين".

قفزة إلى العالم الافتراضي؟

سيكون موضوع الاجتماعات المقبلة "إعادة تقييم فعالية وآلية تحول السياسة النقدية"، (Reassessing the Effectiveness and Transmission of Monetary Policy)، والموضوع مبرر بعد عامين ونيف من اتباع سياسة التشدد النقدي في الولايات المتحدة ولحاق السياسات النقدية العالمية بها، لتقييم ما تمخض عنها من خفض للتضخم مع النجاح في حماية الاقتصادات من الركود أو الانهيار.

 

لكن الوضع مختلف الآن، فالانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب، وإن أعادت الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فقد تعد بكوارث مالية واقتصادية بسبب خططه في شأن تعدين العملات المشفرة في الولايات المتحدة حصرا ونيته إضعاف الدولار خدمة لمصالح الولايات المتحدة التجارية، وإشعال الصراع الاقتصادي مع الصين على كل الجبهات والقطاعات، ولا سيما على التفوق التكنولوجي العالمي الذي سيرسم حتما خريطة الأقطاب الجديدة في السنوات القليلة المقبلة.

يفترض أن تخرج نقاشات "جاكسون هول" هذه السنة عن أي معهود ومألوف وأن توسع آفاق الرؤى المالية والنقدية لتندمج مع ما سيأخذنا إليه العالم الرقمي والتشفير والذكاء الاصطناعي.

مع اقتراب هذه الاجتماعات، لا يبدو في الأفق سوى تعاظم المخاوف على الاقتصاد العالمي، وتصاعد الحديث عن نار انهيارات مالية مقبلة لا تزال مدفونة تحت الرماد، ودعوات إلى التحصن بشراء الذهب، الذي نرى أسعاره إلى ارتفاع كبير، نتيجة المناخ الاقتصادي القاتم، والانخفاض في الثقة وانعدام اليقين، خصوصا إن علمنا ان المصرف المركزي الصيني وشركات استثمارية كبرى تتحوط بالذهب او تبيع أصولا مهمة وتستبدلها بالذهب. تلك الحقائق يفترض ألا تفوت صناع السياسات المالية والنقدية الكبار في "جاكسون هول" ابتداء من الخميس المقبل

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير