تعليم الصينية في السعودية... بين الضرورة العلمية وأثر "التوجهات الجديدة"

{title}
أخبار الأردن -

 

 محمد الصادق

تخبرنا معظم المؤشرات بأن العلاقة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية تتقدم درجات على سُلَّم الشراكة الاستراتيجية المأمولة من الطرفين. آخر تلك الخطوات اللافتة بالنسبة لكثيرين، الشروع في تطبيق قرار سبق الإعلان عنه قبل عدة سنوات، أثناء زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الصينية بكين، ولقائه بالرئيس الصيني شي جين بينغ سنة 2019، وذلك بإدراج تعليم اللغة الصينية في المدارس العامة ابتداء من العام الدراسي الجديد. وعليه، يمكن القول إن هذه الخطوة سوف تعزز الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين، حيث يجمعهما الكثير ويفرقهما القليل.

في الأيام القليلة الماضية، نشرت صحيفة "الصين يوميا" بالتزامن مع بعض الصحف السعودية عن بدء الصين إرسال قرابة 200 مُدرّس ومُدرّسة خلال الشهر الجاري إلى المملكة العربية السعودية، وذلك كمرحلة أولى لتطبيق قرارٍ سابق بإدراج اللغة الصينية في المدارس الابتدائية والمتوسطة، حيث جرى اعتماد ثلاث حصص أسبوعية للغة الصينية، وتخفيض اللغة الإنجليزية من 4 حصص إلى 3 حصص أسبوعيا.

كما تم الاتفاق على استكمال المشروع عبر إرسال 800 معلم صيني إضافي إلى المملكة خلال السنوات القليلة القادمة. أضف إلى ذلك توقيع اتفاق شراكة مع وزارة التعليم السعودية وبعض الجامعات الصينية لتدريب العدد نفسه تقريبا من المدرسين السعوديين من خريجي اللغة الصينية الذين حصلوا على شهادة البكالوريوس من الجامعات السعودية في السنوات القليلة الماضية. أكثر من ذلك، أن جميع جامعات المملكة- بما فيها الجامعات الأهلية- افتتحت أقساما ومسارات لتدريس اللغة الصينية.

على الجانب الأهلي، وقبل أقل من عامين تقريبا، افتتح أول معهد تعليم لغة صينية بكوادر وإدارة صينية في مدينتي الرياض وجدة، هو "معهد بيت الحكمة لتعليم اللغة الصينية"، وقد لقي المعهد إقبالا متزايدا من قبل المواطنين السعوديين من مختلف الأعمار، فيما يعكس تزايد الوعي الشعبي بضرورة مواكبة التوجهات الجديدة لقيادة البلاد. على الضفة المقابلة، يتزايد الطلب على تعلم اللغة العربية داخل الجامعات الصينية وخارجها، وقد بدأ مؤخرا بعض الطلاب الصينيين تعلم اللغة العربية في المملكة، بعد أن كانت جمهورية مصر العربية هي الوجهة الأساسية لهؤلاء الطلاب. أضف إلى كل ما تقدم، ارتفاع حجم طلبات الزيارة من قبل الصينيين إلى السعودية من مختلف التوجهات والمشارب، مما يعكس اهتماما استثنائيا من الجهتين.

ليس خافيا على أحد المكانة التي تبوأتها جمهورية الصين الشعبية على مستوى الحضور الاقتصادي عالميا في العقود الثلاثة الأخيرة، فقد نجحت في تحقيق معجزة اقتصادية انتشلت على أثرها أكثر من 800 مليون إنسان من منطقة الفقر إلى مصاف الطبقة الوسطى، وهي تعد سابقة على مستوى تاريخ البشرية. وعليه، فإن الصين اليوم تتمتع باقتصاد إنتاجي ضخم لا يمكن لعاقل تجاوزه، وإن أغمض عينيه. حيث يحتل الاقتصاد الصيني المرتبة الثانية خلف الولايات المتحدة الأميركية بـ18.533 تريليون دولار، كما تتمتع الصين بأكبر احتياطي نقدي عالمي بمبلغ يقدر بـ3.22 تريليون دولار، مما يجعلها من أغنى دول العالم في الوقت الحالي.

على مستوى منطقة الشرق الأوسط، تعد العلاقة الاقتصادية بين المملكة والصين هي الأكبر، فقد تخطى حجم التبادل التجاري بين البلدين حاجز 100 مليار دولار في عام 2023. كما تعد الصين المستورد الأكبر لنفط المملكة حيث تصدر المملكة 1.8 مليون برميل يوميا، أي ما يربو على 50 مليون برميل من النفط الخام إلى الصين شهريا، وقد بلغ حجم صادرات الصين إلى المملكة العربية السعودية 167.2 مليار دولار في عام 2023.

إن هذه العلاقة الاقتصادية المتينة في طور النمو، وقد تبادل الطرفان الزيارات التجارية والاقتصادية في الأعوام الماضية بما لا يشبه ما جرى خلال عقود خلت، وكل هذا يقودنا دون مبالغة لاستنتاج أن هذه العلاقة المميزة بين الدولتين تتخذ مسارا بيانيا تصاعديا.

لكن ذلك ليس كل شيء، ثمة أمر آخر لا يقل أهمية، تنظر إليه المملكة وتهتم له، وهو حجم الصين وأثرها العلمي والتكنولوجي عالميا، إذ مثّلَ حجم البحث العلمي والتطوير الصيني مستويات قياسية على مستوى العالم. وفي آخر أرقام صادرة عن الحكومة الصينية بلغ حجم الإنفاق على البحث العلمي والتطوير تقريبا 441.13 مليار دولار في عام 2021، وهو ما نسبته 2.44 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لعام 2021. واليوم، تعد الصين الدولة الثانية على مستوى العالم إنفاقا على البحث العلمي والتطوير بعد الولايات المتحدة.

في عام 2017 مثَّل إنفاق الصين على البحث العلمي حوالي 20 في المئة من حجم الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، ولكي نضع هذا الإنفاق الهائل في صورة أكثر جلاء، يكفي أن نذكر أنه يساوي حجم إنفاق 34 دولة أوروبية مجتمعة. وفي عام 2018، أنفقت الصين على البحث والتطوير القدر نفسه الذي أنفقته الدول الأربع الصناعية التالية: اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وفرنسا.
وفي تقرير نشر بعنوان "أكبر مما نتصور: مساهمة الصين في النشر العلمي وأثره الاقتصادي على العالم" أشار معدو التقرير إلى ملاحظة مهمة وهي: أن كثيرا من المراقبين للبحث العلمي الصيني يستبعدون المقالات باللغة الصينية، وهي كبيرة جدا بحيث لا يمكن تجاهلها. 
ويشير التقرير إلى أن الصين أضافت 3.3 مليون ورقة علمية في موقع "سكوبس" الشهير منها 1.1 مليون ورقة علمية نشرت باللغة الصينية لا توجد لها ترجمات. إذن، إذا ما أمعنا اليوم النظر، سنجد أن اللغة الإنجليزية مهيمنة بسبب مكانة بريطانيا العظمى سابقا، ثم تلتها الولايات المتحدة كدولة مُهيمنة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، إلا أن ما يجعل اللغة الإنجليزية لغة عالمية ليس القوة المادية الصلبة فقط، ولكنها أيضا لغة العلم.
بناء على ما تقدم، فإن العلم في قادم السنوات قد لا يكون حصرا على اللغة الإنجليزية التي تعد لغة العلم في عصرنا. الأكيد، أن الصينيين لا يجدون أنفسهم مضطرين للاستسلام لهذا الواقع، وهم الآن في لحظة صعود تاريخي، يثابرون خلالها، لكي يضعوا لأنفسهم وللغتهم ولثقافتهم مكانة عالمية خاصة تتناسب مع حضارة وتاريخ الصين، بحسب فهمنا وقراءتنا لعقل القيادة الصينية الحالية.

وفي العقد الأخير، سال كثير من الحبر حول الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط باتجاه شرق آسيا، وذلك ضمن استراتيجية أميركية جديدة لاحتواء الصعود الصيني كون الصين تشكل بحسب الأميركيين التهديد الاستراتيجي لموقع أميركا الأكبر في القرن الجديد، لكن ادعاءات الانسحاب من الشرق الأوسط ليس لها شواهد أو دلائل تدعمها. فلا زالت المنطقة تحظى باهتمام بالغ في العقل الاستراتيجي الأميركي، ولا زال الوجود العسكري الأميركي حاضرا في كل زاوية من زوايا الشرق الأوسط.
وقد سبق لبعض المحللين الأميركيين الإشارة لمسألة أن أمن الشرق الأوسط أصبح مهمة صينية، بسبب حاجة الصين لتأمين إمدادات النفط إليها، وذلك لاعتماد الأخيرة على هذه المنطقة لتأمين احتياجاتها الأساسية من الطاقة. ويوما بعد آخر، تثبت الأحداث في الشرق الأوسط أن كل هذه الادعاءات لا قيمة لها، بل إن أهمية الشرق الأوسط في لعبة صراع النفوذ تزداد ولا تنقص. 
الصين كدولة اقتصادية عظمى لا تختلف عن بقية القوى الأخرى في نظرتها لأهمية منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وللعلاقة مع المملكة العربية السعودية بشكل خاص. وعليه، فإنها تعمل على تعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع المملكة من أجل لعب دور في مسار الأحداث القائمة، وفي عقلها الباطن إدراك لمكانة المملكة اقتصاديا ودينيا، ولكي لا تجد نفسها في موقع المفعول به، أو على الهامش، في مقابل قوى أقل منها كفاءة وإمكانية. 
ومن الشواهد على ذلك، الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية في ديسمبر/كانون الأول من عام 2022، حيث كانت الرحلة الأولى لرئيس الصين خارج حدود آسيا بعد جائحة كورونا، والتي قام على أثرها بعقد ثلاث قمم شملت قادة الدول العربية، وقادة مجلس التعاون الخليجي، وقمة خاصة مع القيادة السعودية، جرى خلالها توقيع الكثير من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية مع زعماء المنطقة. الأهم في تلك القمم، هو ما لم يعلن عنه. وهو التحول الجذري في العقل الاستراتيجي الصيني، وذهابه نحو ترقية العلاقة مع المملكة العربية السعودية درجات إضافية، باعتبارها الدولة المركزية والأساسية في علاقة الصين بالشرق الأوسط، وأن هذه العلاقة تعد على قمة أولويات السياسية الخارجية لبكين بمقدار ما هي مهمة للرياض. 
بعد تلك الزيارة التاريخية، تضاعف اهتمام الجانب الصيني بالشراكة السعودية وعقد بعدها الكثير من الزيارات المتبادلة بين مسؤولين من كلا الطرفين، شملت التوقيع على كثير من اتفاقات التعاون بمليارات الدولارات بين البلدين في مجالات شتى.

هكذا، ودون مواربة، نستطيع الجزم بأنه بعد زيارة الرئيس الصيني ولقائه بولي العهد السعودي في العاصمة الرياض فُتح المجال أمام الدبلوماسية الصينية للعب دور جديد عليها كليا في السياسة الخارجية بمنطقة الشرق الأوسط، يؤهلها في حال نجاحه لترتقي درجة إضافية على سُلَّم التأثير الدولي خارج حدود شرق آسيا، وهو ما يسمح لها بالتأثير على النظام العالمي بما يتوافق مع رؤيتها ومصالحها الاستراتيجية. من ضمن تلك المبادرات المهمة، طرح فكرة رعاية مصالحة تاريخية بين السعودية وإيران، وقد وافقت المملكة في حينها على أن تلعب الصين دور عراب تلك المصالحة وضامنها، مما عزز مكانة الصين على المسرح الدولي، وتلك قراءة تتوافق تماما مع النظرة السعودية حول ضرورة استقرار وازدهار الشرق الأوسط.

وفي مارس/آذار من عام 2023، استضافت العاصمة بكين لقاء جمع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بنظيره الإيراني الراحل حسين عبداللهيان، قبل أن يقود اللقاء إلى اتفاق تاريخي، وقد وقّع الاتفاق من الجانب السعودي مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد العيبان، وعن الجانب الإيراني الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شامخاني.
إن علاقة المملكة العربية السعودية بجمهورية الصين الشعبية آخذة في النمو التدريجي والهادئ، وكلا الجانبين لديه تصور واضح عما تقدم له هذه العلاقة. وعليه فمن المتوقع أن نشهد خطوات مهمة إضافية في هذا الجانب، وآخرها إدراج اللغة الصينية في المناهج الرسمية في المملكة. 
إن إدراج اللغة الصينية في مناهج التعليم السعودية يعد خطوة جريئة جدا، فتعلم اللغة الصينية لا يشبه تعلم اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات، لا من حيث الصعوبة ولا من حيث مستوى وحجم الجهد المطلوب. إلا أنها مسألة جوهرية، إذا ما أرادت دولة ما الحفاظ على مسافة آمنة من الحصول على التقنيات الحديثة والتعامل معها. خصوصا أننا ندرك التقدم التقني والعلمي لدولة بحجم الصين اقتصاديا وديموغرافيا، ولا نكاد نذكر جديدا إذا قلنا إنه بين كل ستة أشخاص يمشون على الأرض يوجد شخص واحد يتحدث اللغة الصينية على الأقل.

إن الهيمنة التقنية سوف تجعل بقية الدول مجبرة على تعلم لغة البلد المهيمن. وإن الرابط بين معرفة اللغة الصينية وامتلاك زمام التقنية قد يحدث فارقا مهولا مستقبلا بالنسبة للدول أو المؤسسات التي تُجيد هذه اللغة في مختلف التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والجيل السادس وغيرها من التقنيات الاستراتيجية التي ستحدث تحولا هائلا في حياة البشرية. 
حاليا، تتيح الصين لبعض المستهلكين الأجانب الوصول إلى بعض تقنياتها الحديثة باللغة الإنجليزية، لكونها لا زالت في المرتبة الثانية خلف الولايات المتحدة وخلف بعض الدول المصدرة للتقنيات الأكثر حساسية، أما إذا ما أصبحت الصين دولة مهيمنة تكنولوجيا، فإن مسألة تعامل الدول مع اللغة الصينية ستصبح مشكلة الدول المستهلكة لا مشكلة الصين.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير