حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (10)
د.محمد يوسف أبو عمارة
نَــظَـــرِيَّــــة الجُــــنـــون
يَومٌ جَديد مُختَلِف بِدقائِقِه وثَوانيه ومَشاعِرِه، يَقتَحِم الزَّمان والمَكان عنوة دونَ أَخذ مَشورَة أَحَد ، فَلا أَحد يَستَطيع تَأخيره أَو تقديمه أو المُكوثَ فيه .. عَدّاد يَتَحَرَّك بِلا تَوَقُّف وهَوَ كذلك العُمر مُجَرَّد أَن بَدَأ لا يَتَوَقف .. ركبتُ سَيّارتي وشعور جَميل وحافِز كَبير يَدعوني لاستِغلال الوَقت وفي عَقلي خُطَط كَثيرَة لِهذا اليَوم وفي قَلبي مَشاعِر غَزيرَة تَفيض حُبًّا وشَوقًا وعِشقاً لِكُلّ شَيء بحيط بي فَأَنا أُؤمِن بأَنَّك إِن أَحبَبت ما حَولك سيحبك مَن حَولك وإِن أَحبَبتَ الأَحداث سَتَستَمتِع بِها وإِن عَشِقتَ الأَلوان فَلَن يُسَيطِر عَليكَ ولا على تفكيرك اللَّون ألأسود.
وبِمُجَرَّد أَن أَدرتُ بِمُحَرّك السَّيّارة وإِذ بِفَيروز تَشدو ..
يا دارة دوري فينا .. ضلّي دوري فينا ..
تَ ينسوا أساميهن .. وننسى أسامينا ..
تعا تَ نتخبّى من درب الأعمار ..
وإذا هنّي كبروا نحنا بقينا صغار..
وسألونا وين كنتو.. وليش ما كبرتوا إنتو..
منقلّن نسينا ..
واللي نادى الناس.. تَ يكبروا الناس ..
راح ونسي ينادينا ..
آه مِنّك يا أَيَّتُها المَاكِرَة سَيِّدَتي فَيروز .. كَيف عرفتِ ما أُكَلِّمُ بِهِ نَفسي ؟! .. وكَيفَ استَطَعتِ أَن توقّفي عَدّاد السّاعات ودَرب العُمر .. ومَن هُوَ الذي يُنادي النّاس لِيَكبَروا ؟! وهَل باستِطاعَتي الاختِباء مِنه لِكَي يَنسى ويروح وما ينادينا ؟! .. حالَة مِن الحَماس والانسِجام الغَريب حَدَثَت بَيني وبَينَ لَحن وكَلِمات هذه الأُغنية ولَم أَنتَبِه لِنَفسي إِلّا وأَنا عَلى إِشارَة المُرور أغني بِصَوتٍ مُرتَفِع نظرت نحو السيارات مِن حَولي ولَفتَ انتِباهي أَنَّهُم جَميعهم يَنظُرونَ إِليّ .. خَجِلتُ ابتَسَمتُ وأَغلَقتُ نافِذَة السَّيّارَة .. وَواصلتُ الغِناء ..
وَصلتُ مَكتَبي وأنا أدندن وما إِن جَلَستُ وَراءَ المَكتَب وإِذ بالغالي يَمشي الهويني نَحوي .. نَعَم إِنَّهُ فِنجاني القَهوَة ..
- صَباحَك سُكَّر دكتور .
- أَهلاً أفنان .. صَباحِك سَعيد ..
نَظَرتُ نَحوَ فِنجاني الذي كانَ وجهه مُمتَلِئ بالفُقّاعات الهَوائِيَّة ويكَأَنَّهُ فُوَّهة بُركان .. أَمعَنتُ النَّظَر في تِلكَ الفُقّاعات التي تَعلو سَطحَ القَهوَة - فُقّاعات مِن الهَواء – لا تلبثُ أَن تَنفَجِر دونَ إِحداث صَوت ودونَ قيمَة وكذلك الكَثير مِن الأَشخاص فَما هُم سِوى فُقّاعات مَملوءة بالفَراغ ولَيسَ حتّى الهَواء ، تَراهُم مِن بَعيد وتَتَمَنّى أَنَّك لَم تَقتَرِب لِأَنّهم لا يلبثون أَن يَذهبون دونَ إِحداث أَي أَثَر لذلك تَحزَن عَلى مُجَرَّد لَحظات الإِعجاب بِهِم.. لِذا أُكَرِّر .. لا تَقتَرِب كَثيراً مِن الآخرين ولا تتعمق!..
سارَعتُ لِوضعِ أُغنية فَيروز يا دارة دوري فينا .. لأَنّني لَم أَشبَع مِن الاستِماع والاستِمتاع ..
رَشَفتُ رَشفةً مِنَ الفِنجان .. تَبَخَّرَت كُلّ الفُقّاعات وقَوسٌ كالهِلال تَوسَّط الفِنجان ، هِلال!..ماذا يُريد فِنجاني أَن يَبوحَ لي ؟! فَهَل يُريد إِخباري أَن لِكُلِّ شَيء في الحياة دورة ؛ يَبدَأ صِغيراً كالمحاق ويَكبُر رُوَيداً رُوَيداً كالهِلال ثُمَّ يَكتَمِلُ كالبَدر .. وبَعدَ ذلك يَعود إِلى نُقطَة الصِّفر فيَصغر البَدر لِيُصبِح هِلالاُ ثُمَّ مُحاقاً ثُمَّ يَختَفي .. لِنَبحَث عَنه .. يَضيع في هذا الفَضاء الواسِع ويَختَفي عَن أَنظارِنا .. وكذلك العُمر فَنَبدَأُ صِغاراً نَستَعجِلُ الكِبَر ولا نلبَثُ أَن نُصبِح أَقرَب للكُهولَة خِلال رَمشَة عَين ونتمنى أَن يوقف فينا الزَّمن أَو أَن نَختَبِئ مِن الذي يُنادي النّاس كي يَكبرون ..
رَشَفتُ رَشفةً أُخرى مِن الفِنجان .. لِيَتَحَرَّك سَطحه ويَرسُم دائرة تَتَوَسَّط الفِنجان وبِداخِلِها بعض بقايا مِن القَهوَة .. رُبَّما هُوَ البَدر .. وهُوَ خِتام مَراحِل نُموّ القَمَر ولكنّ لِماذا تَغزّل النّاس سابِقاً بالبَدر ؟ لرُبَّما أَنّهُ عنده رُؤيَته مِن الأَرض يَظهَرُ لَنا جَميلاً بِسَبَب انعِكاس ضوء الشّمس فيه ، والقَمَر يَرمُز في أَدَب الأُدَباء للكَمال المُخيف ،فهو مِثالي في جماله ولكنّه يَخفي خَلفَه الكَثير مِن الغُموض فالاقتِراب مِنه يُغَيّر الصّورة ، فَهوَ يَبدو لَنا بِرَسم جَميل مُضيء مُبهِر ولكنَّه يَخفي وراء ذلك غُموضاً وعالماً مِنَ الأَسرار والتّضاريس !
كَما مُعظَم البَشَر والأَشياء والحَقائِق العِلمِيَّة ، فَبَعضُ الظَّواهِر جَميلَة في جانِب مِن جَوانبها ولكنّ عِندَ تَحليلها أَو الخَوض فيها تعرف ما نتمنّى لَو لَم نعرفه سابِقاً فأَحياناً عِندَما تَأكُل لَحماً طازَجاً تَكون غايَة في الاستِمتاع ولكنّك لَو مَرَرتَ بِكُلّ المَراحِل قَبلَ أَن يَصِل إِليكَ على طَبَق اللُّحوم لَرُبَّما عَزَفتَ عَن أَكل اللّحم نِهائيًّا !
وكذلك تَفاصيل الأَشياء والأَشخاص والأَحداث ، فالمشتغلون في عالَم السِّياسَة " المَطابِخ السِّياسِيَّة " يَرونَ الأَحداث مِن زاوِيَة غَير التي نَراها نَحن فَنَجِد أَنّهم لا يَستَمتِعون بِمُعظَم الأَحداث السّارَّة لِأَنَّهُم يُدرِكون أَنّها مُفتَعَلَة وأَنّ ما وَرائِها مِن شَرّ أَعظَم بِكَثير مِن ظاهر الخَير الذي يُبدو في البِدايَة ، فَمُساعدات البَنك الدُّولي جَميلَة مِن زاوِيَة أَنّها قَد تسعف وَطناً مثقل بالديون أَو حكومة فَشلت في إِدارة المال ، ولكنّك تُفاجَأ بأَنّ قروض ومُساعدات البَنك الدَّولي ما هِيَ إِلّا صُورَة جَديدَة مِن صُوَر الاستِعمار للبلدان المُختَلِفَة فالظّاهِر شَيء والباطِن شَيء يَبعد كُلّ البعد عَن ذلك..
رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى .. تَبدَّدت الأَشكال عَلى السَّطح واختَفَت وجاءَ المُنقِذ صَوت فَيروز ..
يا دارة دوري دوري.. موعدنا عالعيد ..
تَ يكبر الدوري.. ويحمرّ القرميد ..
ويا هالصبح الناطر.. قاعد بالقناطر ..
نحنا هلأ جينا ..
حبيبي والليل.. راحوا ببحر الليل ..
ونسيوني عالمينا ..
ما أَجمَل صَباحك يا فَيروز الذي لا يملّ انتظارك وهُو يجلس بالقناطر .. وينتَظِر قُدوم المُحبّ والحبّ فصباحنا نحن من ينتظره أما أنت فصباحك هو من ينتظرك!
ولكنّ الغَريب بالمَوضوع أَنّ الحَبيب واللَّيل بِمُجَرَّد قدوم الصّباح ذهبا معاً فالصّباح يَمحي اللّيل ولكنّ لِماذا مَحى مَعهُ الحبيب تاركاً حبيبته تَنتَظِر عَلى المينا ؟!
تَبَدَّد سَطحُ القَهوَة كَتَبَدُّد اللَّيل عِندَ قُدوم الصُّبح الذي يَمحوه وكذلك العَديد مِن الأَشخاص يَختَفون ويَذهَبون ويَتَبَدَّدون كَما أَنّهم لَم يَكونوا تَمحوهم الأَحداث أَو الاحتياجات رُبَّما أَو المَواقِف الصَّعبَة ، وكَم يَظُنّ المَرء أَنَّه مُحاط بِكَم مِن المُخلصين وبِمُجَرَّد تَعَرّضه لِضيق ما تَجِدهم يتَبَدَّدون كَما اللَّيل والنَّهار يذوبونَ كَما حَبَّة ملح في ماء عَذب .. فَما أَكثَر الإِخوان حينَ تَعُدُّهُم
ولكنَّهم في النّائِباتُ قَليل ..
بَيت شِعرٍ للإِمام عَلي كَرَّم الله وَجهَه
فالمواقِف وَحدها والعثرات هِيَ مَن تَفرز الأَشخاص وتضعهم في الغِربال ، فَيبقى مِنهم القِلَّة القَليلة الصّادِقة الوَفِيَّة وأَمّا الآخرون فَيذهبون ويتَبَدَّدون كَحبيب فَيروز الذي اختَفى مع اللَّيل ،ولكنّ اللَّيل يرجع بَعدَ مُرور اثنَي عَشَرَ ساعَة .. أَمّا حَبيب فَيروز فَلا أَعتَقِد أَنّ لَه عَودة وإِن عاد فَهَل سَيَعود حَبيباً كَما كان أَم أَنّها لَن تَرضى بذلك فالصَّديق الذي لا يَكون معك بالشِدَّة يجب أَن يَختَفي للأَبَد ولا يَعود مُطلقاً .. وإِن عادَ فعليكَ أَن لا تُرَحِّب بِتلكَ العَودَة .. وهَل الوَقت كَفيل بِقَتل كُلّ القِصَص المُزَيّفَة ..
ويَأتي صَوتُ فَيروز مَرَّة أُخرى .. وهِيَ تَقول :
بيقولوا الحب بيقتُل الوقت ..
وبيقولوا الوقت بيقتُل الحبّ ..
يا حبيبي تَعَا تَ نْروحْ ..
قبل الوقت وقبل الحبّ ..
كَيفَ لَنا يا سَيّدتي فَيروز أَن نَذهَب قَبلَ الحُبّ وقَبلَ الوَقت ؟! وهَل هذا التَّوقيت هُوَ نَفسُ التَّوقيت الذي نَختَبِئ بِه مِنَ الذي يُنادي النّاس لِيَكبروا .. قَبلَ الوَقت وقَبلَ الحُبّ ..
رَشَفتُ رَشفةً أَخيرة مِن فِنجاني .. وأَنا أَقول قَبلَ الوَقت وقَبل الحُبّ .. هَيّا بِنا نَركُض في هذا الفَضاء الرَّحب ناسين الوَقت و مُتناسين الأَحداث وفضائك الرحب يَبدأَ مدى عمق دِماغك فَعَلى وسعِ أُفقك يَتَّسِع الكَون وعَلى مد بصرك تبتعِد الحُدود وأمام نَبض قَلبِك تَتلوّن الأَحداث وعِندَ جَمال بصرك تَحلَوّ الرُّؤيَة وتزهرُ الأَوقات ..
فاطلِق لعنانك المجال وطِر كَما طيور فَيروز على طراف الدّني استَمتِع بالموسيقى والأَلوان والأَحداث ولا تَقِف لا أَنتَ ولا حياتَك على شخص ظاهره صَديق وباطنه عَدوّ ولا عَلى أَحداث أَو مَشاكِل فَلا تَتَوَقَّف أَبداً ما دامَ في العُمرِ بَقِيَّة، سيظل للموسيقى طَعمُ وللأَلوان لَذّة وللوَردِ انبِهار فَكَم جَميل أَن تَنبَهِر كُلَّما أُهديتَ ورداً ، نَعَم أَن تَنبَهِر وتَتَفاجأ في كُلّ مَرَّة ، حلّق كالطّير وارسُم طَريقك كالنَّحل على خَطّ السَّماء الزّرقاء .. خَطٌّ لا يراه سِواك وإِن وجدتَ شَريكاً في رَسمِ هذا الخَطّ فَلتكونا أَنتُما اللّذان يَعيشان الحَياة بِمُتعَة وجُنون ، فالعَقل يَحدُّ مِنَ الاستِمتاع في كَثير مِن الأَحيان وبَعضٌ مِن الجنون يجعل الخَيال أَوسع ، والأَلوان أَكثَر تعدداً والموسيقى أَعذَب والطَّعام أَطيَب والحُبّ أَجمَل وأَقوى وأَدوَم ..
نَظَرتُ إلى فِنجاني وقلتُ له .. هيا نَعِش كُلّ لَحظاتنا بِجُنون ،وحِواري مَعك يا صَديقي ما هُوَ إِلّا ضَربٌ مِن الجنون ولكنَّه جنون جَميل ، جُنون عَفَوي ، جُنون أُحِبُّه ويفَجّر ما بي مِن طاقات .. وشَعرتُ بِأَنّه يَنظُر لي ويَغمِزُ غَمزَة ( سَميرة تَوفيق) ويقول :
يَعني أَنا مصاحِب واحَد مَجنون نَظرتُ إِليهِ وضَحِكنا سَويًّا وفَيروز تُكمِلُ ..
بيقولوا الحب بيقتُل الوقت ..
وبيقولوا الوقت بيقتُل الحبّ ..
يا حبيبي تَعَا تَ نْروحْ ..
قبل الوقت وقبل الحبّ ..