حماس بين الرفض والقبول
نادية حرحش
يقترب عيد آخر بلا معنى ولا فرحة. تستمر الحياة وكأن الوضع القائم صار جزءا بديهيا من يومنا. نصحو وننام على خبر عاجل كتبت حروفه بدماء ضحايا جدد بين غارة كانت حصيلتها بضعة أشخاص وقصف راح ضحيته بضع مئات. لم تعد تحتمل عيوننا المزيد من الأسماء او الأرقام. لم نعد نحتمل رؤية المزيد من الدماء المسفوكة والأجسام المتفحمة او المتقطعة والمتناثرة أجزاؤها لتزيد من حرقة من لم يأت دوره بعد ليلتهمه هذا الجحيم غير المتوقف.
تستمر حياتنا بحسرة وتحسب ودعاوي وصلوات في تلك اللحظات الكثيرة لما تقحمه المشاهد الكارثية لعيوننا وقلوبنا من جهة، ونجلس في مقاعد المحللين السياسيين بينما نتابع حياتنا في مكتب، او على مقهى، او سهرة. نحتفي بإنجازات القتال الدائر ونتباكى على مشاهد الدمار، منتظرين أن النصر قادم لا محالة.
ما نتابعه من قتال صعب ومرير من أجل أمل الوجود أمام ماكنة الدمار الشامل من كل اتجاه يذكرنا بالتأكيد بمعنى المقاومة. معنى العيش بشرف وكرامة أو الموت. تذكرنا المشاهد القادمة من غزة والضفة بحقيقة حياتنا تحت الاحتلال. احتلال مركب يسحق بنا من كل اتجاه. احتلال عسكري يفتك بنا بمنهجية منذ احتلاله لأرضنا وتهجيره وتشتيته لشعبنا، وتدمير اجتماعي يحللنا ويحلّنا ونقوم نحن بعبثية اللعب بالكلمات بتحليله وفق مضامين فرغتنا من المعنى الحقيقي لوجودنا كبشر، ربما بالفعل لا نحظى بالإنسانية الكاملة لبقية بني البشر.
وسط كل هذا تستمر المعاناة على شكل كوارث متلاحقة على اهل غزة، بانعدام افق أي توقف لهذه الحرب الغاشمة التي يتغذى قوادها على بقائهم السياسي من خلالها. بينما يستمر انكشاف حقيقة كل من حولنا من قيادات وحكومات اثبتت انها بعيدة كل البعد عن الحنكة السياسية والتفكير الاستراتيجي وقواعد حل النزاعات. لا نرى امامنا الا هواة من الساسة لم تعد حتى كلماتهم المتقنة الا تفاهة آلية تم انتاجها بذكاء اصطناعي. يبدو المشهد هكذا، وكأن تشات جي بي تي غير مطور يتحكم بهذا العالم على لسان قيادات العالم المتمثلة بأمريكا واتباعها. لقد تم إفراغ الجميع من مضامينهم الحقيقية ولم يبق من الحقيقة الا ما نراه من مشاهد قتال مستميتة بين أروقة الدمار الشامل في غزة. وكأن هذه المشاهد التي يبثها الاعلام العسكري هي الشاهد الوحيد على الحقيقة القتالية، كما تشهد كاميرات الجزيرة على حقيقة المعاناة التي صارت اعتيادية.
ربما نحتاج الى فكر سياسي في هذه المرحلة اكثر من أي وقت. وبين كل الهزلية الجارية، يبقى لاعبان حقيقيان على الساحة. نتانياهو وحماس. لا يمكن الا ننظر الى إمكانيات هذا الرجل الهائلة كسياسي. لا اعرف اين شهد التاريخ سياسيا بهذه المقدرة على الخروج من كل مأزق يكاد يودي بحياته السياسية الى الابد وسط كراهية وضغط من كل اتجاه، أقوى في كل مرة. في كل هبوط يبدو وشيكا له نراه كبس زر الصعود وحلق من جديد. وقيادة حماس، والتي تبدو متشخصة في قيادة لا شخص بعينه، تفوز بقدرتها على التمكن وسط كل هذا الهجوم والصراعات حولها وربما بداخلها على التماسك بهذا القدر من الكفاءة.
لم يعد هناك من يختلف ان هذه الحرب لو انتهت اليوم، الرابح فيها بلا منازع هي حماس. لأن الحسم العسكري انتهى من ناحية إسرائيل، وحرب الاستنزاف الدائرة على أنقاض ما كان بيوتا وعمارات ودكاكين ومدارس وجوامع وكنائس ومتاحف ومراكز ومستشفيات لم يعد موجودا. لم يعد ما يخشاه المقاتل على الأرض، على العكس تماما، ان مشاهد الدمار بالتأكيد تجلب الإصرار. لقد جعلت إسرائيل من الدمار الشامل الذي الحقته على غزة ساحة خصبة لمصلحة مقاتلي المقاومة.
كثيرا ما أفكر بأن ما تقوم به إسرائيل من حرب غاشمة بهذا الشكل يرتبط بالفعل بتاريخهم. ما ينشأ ويتربى عليه الإسرائيلي واليهودي هو التوراة التي تشكلت حبكتها في فكرة المقاومة. مقاومة العدو تحت أي ثمن. مقاومة العدو كما فعل حزقيا زمن الاشورييين والبابليين في حصار لخيش ، والمكابيون (الحشمونيون) زمن السلوقيين في حصار موديعين والقدس، وثورة اليهود ضد الرومان في حصار جاملا، والسيكاريين في حصار متسادة (مسعدة). في كل تلك القصص التوراتية والتلمودية كانت حروب اليهود ضد الحكام الطغاة من الاشوريين إلى البابليين الى السلوقيين الى الرومان. حروب مقاومة مستميتة لا تقبل الهزيمة الا للموت. المشاهد الانتحارية المتكررة بتلك الحروب بنت إسرائيل “أسطورة” قوتها بعرض عسكري تتوجي على قمة متسادة.
ما تقوم به المقاومة في غزة هي هكذا، تذكر بتلك الحروب التي كانت اليهود بها فئة اثنية صغيرة غلبت او قاومت امبراطورية عظيمة باستماتة.
تتأرجح إسرائيل في هذا المكان بين تعليم بني على فكرة الفئة الصغيرة التي تواجه عمالقة الامبراطوريات، وبين تحولها لعملاق يحارب فئة مؤمنة بقضيتها لسان حالها “عقيدة مسادا”. ربما تتحول اليوم مسادا الى حقيقة تلك المجموعة التي تحصنت داخل القلعة. لأن الأسطورة التي بنت عليها إسرائيل فخرها لسنوات ابطالها لم يكونوا ثوارا بقدر كونهم لصوصا أرعبوا السكان وحرقوا المدن لسنوات. كانت مسادا هي حصنهم الأخير، وقرروا قتل أنفسهم علي التسليم للرومان.
ربما هذا ما يخيف إسرائيل بالفعل، عقدة اللص الذي تحصن بقلعة واستقوى برئيس عصابة أخرى!
لا يستطيع الإسرائيلي اليوم ان يستعرض بقصة داهود وجالوت. داهود الفتى اليهودي الذي ضرب جالوت العملاق الفلسطيني بمقلاعه واسقطه قتيلا.
داهود اليوم هو المقاتل الذي نراه في غزة يخرج بين الأنقاض بلباس وسلاح بسيط ليواجه دبابة ومدفعية وصاروخ، ويصيبه ويرديه بين قتيل وجريح.
هذا الخوف الذي يتجسد اليوم في نفوس كل إسرائيلي نشأ على الضعيف المسكين المتمسك بعقيدته مواجها كل القوى العاتية. لأن إسرائيل اليوم هي تلك القوة العاتية التي تواجه الضعيف المسكين المتمسك بعقيدته مواجها كب القوى العاتية الغاشمة.
ولكن ما حصل عليه داهود بالمقلاع، حصده سليمان بالحكمة. الحكمة التي تتحول الى سياسة بمفاهيم اليوم. وفي هذه الحرب كما في كل الحروب ما تحصّله الأرض، تحسم نتائجه السياسة.
تكلمت في بداية هذا المقال عن نتانياهو وحنكته السياسية الهائلة التي تجعلنا امام خصم مهما تغيرت الساحة الحربية في خسارتها ومرابحها، فإنه يستطيع ان يخرج الرابح الوحيد من كل موقف مهما كان ضده وبدا انه اقترب من نهايته.
كيف تلعب حماس سياسيا هنا؟ بالتأكيد ان وضع حماس هنا أصعب، لأننا نتكلم عن مجموعة من الأشخاص، بينما عندما نتكلم عن نتانياهو فنحن نتكلم عن شخص واحد. وهنا، تكمن الصعوبة. لأن حماس تتشكل من عدة اشخاص، ومواقف، وحسابات، وتبعيات. ونتانياهو بالمقابل شخصا واحدا يريد ان يبقى في الحكم لينجو من السجن.
لقد تابعت تحركات حماس السياسية المدروسة منذ اندلاع هذه الحرب، وفي كل مرة كنا نشهد على عقول سياسية جدية تقف في مواجهة هذه الحرب بندية لا بخنوع او انهزامية. ويبدو لنا المشهد من الخارج بإيقاع مدروس بشكل عام. بينما ننتظر رد حماس على مبادرة بايدن هذه المرة، أخشى من وقوع حماس في مصيدة اعدت لها، لا بقبول العرض، ولكن برفضه. بينما لا يوجد على طاولة المفاوضات ما يعطي نتائج يطمح لها بعد كل هذه الخسائر البشرية الأليمة، ولكن يوجد ما يحتاجه اهل غزة بشدة، وهو فرصة لأخذ نفس بلا دك وقصف وقتل ولو لأيام.
يبدو المشهد لنا من خارج غزة وكأن هذا الشعب استطاع الصمود بعد كل هذا الدمار. ننظر اليهم وكأننا نشاهد فيلما سينتهي بعد وقت ويعود الممثلون الى حياتهم العادية. ولكن من يعود الى حياته الطبيعية هو نحن المتفرجون. ابطال هذا الفيلم لا يعودون الى حياة اعتيادية. يجاهدون من اجل يوم اخر على قيد هذه الحياة الصعبة الظالمة وسط موت محتم عليهم ان يكون بين انفاسهم يرفض ان يفارقهم وسط همجية هذا العدوان.
لا يمكن الوثوق بأمريكا، فهي شريك أساسي في هذه الحرب، ولكن من المؤكد انه مع اقتراب موعد الانتخابات الامريكية، ان استمرار هذه الحرب لن تكون في مصلحة بايدن، وتعنت إسرائيل لا يخدمه. خطابه الأخير كان اشبه بانقلاب يدعو له الاسرائيليون على حكومتهم من اجل الضغط على قبول صفقة. وبالتأكيد، يضع نتانياهو في وضع أصعب، فاذا ما قبل او رفض فإن الضغط عليه يزداد، ولكنه يحتاج في هذه الحالة من يرفض الصفقة ليخلصه من عبء هذا الضغط. وإذا ما قامت حماس برفض العرض فإنها ستوفر على نتانياهو رفضه.
بين حروب تحسمها السياسة، وبين واقع على الأرض، فإن ما نخسره نحن الفلسطينيين أكثر. المعاناة التي يعيشها تزداد استحالتها يوميا. واي تخفيف من هذه المعاناة ولو كان مؤقتا فانه مهم. لأن هذه الحرب لن تنتهي قريبا. وتخفيف المعاناة على الشعب الذي يصارعه الموت من كل اتجاه، ويصرعه العوز والجوع والتشرد يصبح في هذه الأوقات مكسبا يضاف في لعبة السياسة. من جهة تتوقف المعاناة لبرهة، ومن جهة تضع نتانياهو في ازمة أكبر يكون من شأنها اضعاف التحالف الحكومي الإسرائيلي المتشدد الذي تزداد الفجوة بينه وبين الشارع الإسرائيلي يومياً.