في يوم أوروبا، بين مواقفها والوقائع بعد 76 عاماً من جريمة النكبة
كتب مروان طوباسي
احتفلت دول أوروبا قبل أيام في التاسع من أيار الجاري بـ"يوم أوروبا"، الذي يأتي لإحياء ذكرى إعلان شومان في العام 1950 الذي أسس بعد ذلك لوجود الاتحاد الأوروبي بهيكله الحالي المكون من 27 دولة أوروبية. وهو ذات اليوم الذي تحتفل به الشعوب الأوروبية وفي روسيا على وجه الخصوص بيوم النصر على النازية.
وفي هذا الوقت وبعد 74 عاما من هذا الاعلان الذي أتى بعد عامين من جريمة النكبة، ما زالت القضية الفلسطينية رقم صعب في أي معادلات إقليمية رغم كل محاولات التصفية، والتي يمكن أن تنفجر بشكل أكبر في أي لحظة كما انفجرت لحظة 7 أكتوبر وما خلفته من تداعيات ومفارقات على المجتمع الإسرائيلي بشكل عام والرؤية الأمنية لديهم. وحينها ستصل تداعياتها إلى الشوارع العربية والعالمية كما يحدث الآن، لكن بشكل أوسع وأكثر تأثيراً على مجتمعاتها، خاصة وأن استراتيجية الاحتلال القائمة على أن الإسرائيليين هم ضحية اعتداء ويجب مراعاته وتحقيق أمنه لم تعد موجودة على طاولة الرأي العام الدولي المتصاعدة، إلا في عقول معظم الإسرائيليين سوى القلة الذين قاموا يوم أمس بإخماد ما تسمى "شعلة استقلالهم" بدلاً عن إضاءتها من قبل جموع المتظاهرين احتجاجاً على حكومة نتنياهو والحرب التي يخوضها ويصفها بالمعركة الوجودية. هؤلاء يجب أن يستشعروا أكثر أن لا مجال لاستقرار مجتمعاتهم سوى بإنهاء الاحتلال حين ادراكهم مدى كلفته عليهم.
أن ما يجري اليوم ليس تصفية الأداة العسكرية للمقاومة فقط، بل الإطاحة بكل الأجسام الوطنية ومقدرات شعبنا في كل مكان، من الفكرة إلى القيادات السياسية والميدانية إلى الفرق الإغاثية وصولاً إلى المشروع التحرري الفلسطيني بكل مكوناته. لكنه أيضاً سيجر المجتمعات اليهودية في دولة الاحتلال إلى التشتت والفوضى ما يهدد مبرر تماسكها بعد اليوم والمتغيرات التي ترافق ما يقومون به من تطهير عرقي لأصحاب الأرض.
ورغم ذلك لا يوجد أحد في كيان دولة الاحتلال ولا في النظام القائم بالولايات المتحدة ولا في معظم الغرب، من هو مستعد فعلا لتلبية جزء من حقوق الشعب الفلسطيني السياسية والتاريخية والقانونية والتي تتلخص أساساً بحق تقرير المصير وضرورة إنهاء الاحتلال الاستيطاني كاملاً وصولاً إلى اقامة الدولة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس على كافة الأراضي ما قبل 4 حزيران 67 وعودة اللاجئين وفق القرار 194، الأمر الذي تتجاهل تفاصيله الولايات المتحدة عند حديثها عن حل الدولتين.
واليوم إذا كان الاتحاد الأوروبي أو دوله الأعضاء وبتفاوت مواقفهم في بعض الأحيان لا يرغبون في أن توصف سياستهم بالنفاق أو بالكيل بمكيالين تجاه القضايا المثارة في هذا العالم وفي تعاطيها أو بمدى التزامها بما نصت عليه المبادئ التأسيسية الاتحاد الأوروبي التي تتلخص بالعدالة والحرية والديمقراطية، كما القوانين والقرارات والأنظمة والمعاهدات الدولية التي وقعت هي نفسها عليها وألزمت نفسها بها من خلال انضمامها لتلك المعاهدات والاتفاقيات التي وجدت لتنظيم العلاقات الدولية. ومن أجل عدم سريان قوانين شريعة الغاب في هذا العالم. فعلى الأوروبيين التحلي بجرأة المواقف من مبدأ ضرورة إنهاء الاحتلال الكولنيالي والابرتهايد وما يجري اليوم من حرب إبادة وتهجير وتجويع في قطاع غزة واتخاذ ما يلزم لوقف تزويدها بالسلاح واتخاذ إجراءات عقابية وفق ما نصت عليه القوانين الأممية ضد إسرائيل، هذه الدولة القائمة بالاحتلال الاستيطاني والإحلالي والتمييز العنصري والفوقية اليهودية.
ولأننا غير عبثيين، فمن المنصف رؤية بعض المتغيرات في مواقف عدد من الدول الأوروبية التي صدرت حتى الآن وخاصة تلك التي اعترفت بدولتنا أو على الأقل تلك التي صوتت إلى جانب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، ورؤية الجانب الإيجابي فيها والبناء عليه ومراجعة الدول التي صوتت ضد القرار أو التي امتنعت عن التصويت وتحديداً من دول الاتحاد الأوروبي. رغم أن إسرائيل كانت قد أرسلت وما زالت إشارات مباشرة لمن يصوت إيجاباً تتهم بها هؤلاء بمعاداة السامية وتؤكد بأن العنصرية مسموحة ضد غير اليهود، لكنها غير مسموحة بحق اليهود.
إلا أن معظم المواقف الرسمية الحكومية الصادرة أن كان بالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي ما زالت تعبر بذلك عن حقيقة مواقفهم السياسية التاريخية ومصالحهم وما يؤمنون به من فكر، دون اكتراث بأن ادعاء "استقلال اسرائيل" المزعوم هذا قد مثل نكبة شعبنا الفلسطيني، تلك الجريمة المكتملة الأركان من التطهير العرقي والاستيطان، والتي لم يحاسب العالم مُرتكبيها حتى اليوم.
تلك مواقف يجب أن تتغير كي لا تخدم فقط استدامة الاحتلال الاستيطاني على أرض الواقع، واستمرار سياسات إدارة الأزمة دون حلول سياسية لجذر الصراع المتمثل بالاحتلال الاستيطاني والأبارتهايد.
وهو ما يعبر عنه الغرب الرسمي بكل وضوح انطلاقاً من محددات ما يسمونها بالقيم المشتركة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يتغنون بها، ولأهمية مكانتها الجيوسياسية لأطماعهم، كما وسندا لاستمرار عقدة الذنب من "الهولوكست" التي ما زالت تلازم بعض الأوروبيين وهاجس الخوف من الحركة الصهيونية أو لانخراطهم فيها لأسباب مختلفة كما يصرح البعض منهم جهاراً، رغم كل الفظائع التي ترتكبها.
إن الأمر المطلوب من الأوروبيين اليوم هو التحرر من العبودية الأمريكية الرسمية أمام تكشف وجه دولة الاحتلال أمام المترددين بالغرب، وهذا يتوقف هنا على بشاعة ما يدور اليوم من عدوان وجرائم بحق شعبنا بما يخدم سياسات نتنياهو وحساباته الداخلية في الهروب إلى الأمام من الصراع المحتدم داخل المجتمعات اليهودية ومحاولة تحقيق الوحدة والاجماع داخل حكومته كما الكل الصهيوني وتحقيق شعار استعادة الردع وتوجيه رسائل للآخرين تتعلق برؤية مستقبل قطاع غزة كجزء من ترتيبات تخدم مشاريع دولة الاحتلال وما يرافقها بالقدس والضفة، وذلك من خلال عدوان الإبادة والتهجير الهمجي ضد أهلنا في غزة وارتقاء الشهداء يومياً في نابلس وجنين وغيرها من مدننا ومخيماتنا الصامدة منذ بداية هذا العام وما قبل، أو قرارات حكومة الاحتلال الأخيرة بمحاصرة مؤسساتنا الوطنية ومدننا وببناء وحدات استيطانية جديدة أو استمرار الاعتداء على هوية القدس ومكانتها ومقدساتها وحتى ومحاولات إفشال دور السلطة الوطنية وتوسيع هوة الخلافات بينها وبين شعبنا وإضعافها.
فجميعها تعتبر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، وتفاصيلها يشاهدها ممثلين دول الاتحاد الأوروبي العاملين بالقدس أو برام الله يوميا، والذين يقدموا التقارير لحكوماتهم يؤكدون فيها على طبيعة التنفيذ التراكمي للمشروع الصهيوني، لكن دون اكتراث جدي من قبل عدد من حكوماتهم التي تخرج بسياسات منافقة تساوي فيها الضحية بالجلاد.
فلماذا ينسى بعض الأوروبيين الذين احتفلوا قبل أيام “بيوم أوروبا” وهو احتفال سنوي للسلام والوحدة بينهم في التاسع من أيّار، أنهم هم من أقاموا المحاكم الدولية والأوروبية في نورمبيرغ وغيرها ضد جرائم الاحتلال النازي بحقهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهم الذين قاتلوا هذا الوحش النازي من خلال جيوش بلادهم ومن خلال المقاومة الوطنية الشعبية الباسلة التي خاضتها الشعوب الأوروبية والتي تم إحياء ذكراها بيوم الانتصار على النازية في التاسع من أيار في روسيا التي دفعت لوحدها 27 مليون من الضحايا آنذاك لهذا الانتصار إلى جانب تضحيات الشعوب الأخرى. في حين يحرمون علينا بالغرب مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حتى بالأساليب التي شرعتها القوانين الدولية في مقاومة ومواجهة رابع قوة عسكرية بل ونووية بالعالم وما يتبعها من مستوطنين عنصريين بعقيدتهم التوراتية والتلمودية، طالما لم تتقدم أوروبا بأية مبادرة سياسية جادة لحل الصراع، بل إن بعض دولها مثل فرنسا قد تراجعت عن ما طرحته من أفكار في إطار مؤتمر باريس قبل سنوات عدة.
لقد عاقب الاتحاد الأوروبي ومن خلفه الولايات المتحدة دول عدة وما زال، كان آخرها ما يجري اليوم بفرض عقوبات ضد روسيا الاتحادية، لأنها وفق مزاعمهم انتهكت القانون الدولي وارتكبت الجرائم وفق ادعائهم وقبل ذلك إيران وجنوب إفريقيا زمن العنصرية وغيرها من الدول.
هذا الأمر يجب أن يدفع بالأوروبيين إلى استقلال مواقفهم السياسية والاقتصادية والانفكاك عن تبعيتها التي تمت بعد الحرب العالمية الثانية وبفعل خطة مارشال الأمريكية آنذاك، واتخاذ مواقف لا ترتبط بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن قضية شعبنا بل وقضايا العالم التي تثيرها مصالح الولايات المتحدة وباتت تنعكس سلباً على المجتمعات الأوروبية نفسها اقتصادياً واجتماعياً وتهددها بأزمات.
السؤال هنا، ماذا ينتظر الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء لإنصاف كفاح شعبنا العادل ورفع الظلم التاريخي عنه ومعاقبة إسرائيل؟ هل بعد أن تقوم بتوسعة مذابحها لتصل بالشهداء إلى رقم غير منتهي وبتنفيذ مشروعهم بما يسمى بالحسم المبكر أو بضم كل الأراضي الفلسطينية المحتلة وفق تهديداتها السابقة والمستمرة بشكل تدريجي مخالف للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي ساهم الاتحاد الأوروبي في صياغتها بشكل فعال. أو حين تنفذ دولة الاحتلال نكبات جديدة إضافة إلى الجارية اليوم بتوسعة رقعة الحرب بالمنطقة الأوسع وفق ما يسعى له نتنياهو وجماعته.
فنحن الفلسطينيين ما زلنا نعيش الظلم التاريخي الذي فرضته علينا قوى الاستعمار بالغرب منذ جريمة النكبة عام 1948، وهو ظلم ينم عن عقلية الاستعمار والفوقية اليهودية التي أسس الفكر الصهيوني لها كما أسس الفاشيون والنازيون سابقاً فوقيتهم العرقية، وهو ظلم يتم بحقد دفين وعلى مرأى من الحكومات في أوروبا دون محاسبة أو عقاب، بل وبمساندة أمريكية أوروبية جزئية بالمحافل الأممية وعلى الأرض.
هذا أمر يتطلب قيام المجتمع الدولي بما فيه الاتحاد الأوروبي بتحمل مسؤولياته القانونية والتاريخية والسياسية وحتى الأخلاقية من خلال العمل الجاد لإنهاء الاحتلال الاستيطاني الأمر الذي لا نرى له أثراً جدياً مسؤولاً بعد مرور أكثر من ربع قرن من بداية ذلك المسار السياسي المسمى بعملية سلام مفترضة، والذي قارب لأن يكون سراباً أو أنه أصبح كخرافة تستغله الحركة الصهيونية في تنفيذ مشروعها الاستيطاني الكامل على كل أرض فلسطين التاريخية وتسابق الزمن فيه من خلال التطهير العرقي والتهجير.
على دول الاتحاد الأوروبي أن تستمع لمواقف شعوبها، فكفى الشعوب الأوروبية الصديقة تضحياتها العظيمة خلال معارك استقلال دولها ومقارعة الاحتلال النازي الذي أحيينا ذكرى الانتصار عليه قبل أيام، وهي تلك الشعوب التي تعلن تضامنها مع حقوق شعبنا وكفاحه العادل وفي معاداتها لاستدامة الاحتلال بعيداً عن مواقف حكوماتها المترددة والخجولة بل والمنحازة في بعض الأحيان أو تلك التي تساوي بين الضحية والجلاد وتعطي الحق لدولة الاحتلال بالدفاع عن استمرار احتلالها تحت ذريعة الدفاع عن النفس المزعوم.
وعلينا نحن وهو الأهم في هذه الظروف لمواجهة فاشية الاحتلال، تجسيد الوحدة وتحديد الرؤية والبرامج والأدوات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي ما زالت تتعرض لمشاريع النيل منها والالتفاف عليها، وتفعيل دورها وترسيخ حضورها الجماهيري الواسع خاصة بأوساط الأجيال الناشئة لاستكمال مرحلة التحرر الوطني على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية ووفق منطق الإرتقاء بدورها وبالمراجعة والتقييم لتحديد آفاق العمل المستقبلي والبناء على الموقف الوطني برفض العرض الأمريكي بإدارة معبر رفح، والاخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجارية إن كان بتفشي الفاشية الدينية بدولة الاحتلال الاستعماري وتصعيد جرائمها، والتحولات الجارية بالإقليم كما وما يجري من التحولات المتسارعة بالسياسات الدولية