لا تقل لي: إنه مقال غير مفهوم
حسني عايش
الهوية نسبة إلى هُوَ. والمعضلة في الفلسفة بيان أو تصريح يبدأ بمقدمة تبدو صحيحة، وبالتحقق أو بالبرهان تنتهي زائفة، ومعضلة سفينة تسيوس التي نشرتها في مقال سابق في جريدة الغد ظهرت لأول مرة عند الفيلسوف الإغريقي بلوتارك (46 – 120 ق.م)، وحسب الرواية أو الخرافة أن تيسوس كان الملك المؤسس لمدينة أثينا، وأن تسيوس خرج بسفينة يجوب بها البحر الأبيض المتوسط، وكان كلما رسى في ميناء يخلع لوحاً من السفينة ويركب لوحاً جديداً بدلاً منه، وإنه عاد إلى أثينا بسفينة جديدة تماماً.
والسؤال الآن: ماذا لو بقي في السفينة العائدة لوح أو لوحان من السفينة التي غادر بها؟ وإذا كان تسيوس أبحر بسفينة هي (أ) وعاد بسفينة هي (ب) فهل أ = ب؟
ثم جاء الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز ( 1588 - 1679) وصعّب المسألة فقال: دعونا نفترض أن قماماً (Scavenger) تبع تيسوس، وأخذ يلتقط كل لوح يلقيه وتسيوس في البحر فيلتقطه ويشرع في بناء سفينة منه خاصة به. إن معنى هذا وصول سفينتين إلى الميناء الأخير: سفينة تسيوس الجديدة، وسفينة القمّام (القديمة) ثم سأل : أيهما سفينة تسيوس؟ وأضاف: دعونا في هذه الحالة نرمز لسفينة القمام بالحرف (ج/C). كلنا نعرف أن ب= ج لأن سفينتين رسوا في الميناء لكن لا يمكن أن يكونا هما الشيء ذاته.
إذاً ما الذي يجعل سفينته تسيوس سفينته؟ هل هي الأجزاء التي تكونت منها سفينته؟ هل هو تاريخ السفينة؟
حسب نظرية الهوية الميكروسكوبية المنطقية، فإن هوية أي شيء تعتمد على هوية مكوناته. تزعم هذه النظرية أن الحالة الضرورية للهوية هي وجوب تماثل مكوناته.
معضلة سفينته تسيوس حسب هذه النظرية أن أ = ج. إن هذا يعني وجود سفينتين هما السفينة التي أبحر بها تسيوس والسفينة التي عاد بها القمام. لكن السفينة التي عاد بها تسيوس هي السفينة التي عاد بها القمام، وهناك السفينة التي عاد بها تسيوس المكونة من الألواح الجديدة.
لكن تظل مشكلة، فقد وصل تسيوس الميناء بسفنيته (ب) التي لا تساوي (ج) ولكن تسيوس لم يغادر السفينة مطلقاً، لكنه مع ذلك غادر بسفينة (أ) وعاد بسفينة (ب) إنه لم يوجد في السفينتين معاً، إذاً فتلك النظرية غير دقيقة.
وعليه دعنا نحل المعضلة فندعي أن (أ) = (ب). حسب هذا السيناريو هناك سفينتان فقط ما تزالان موجودتين: السفينة التي غادر بها تسيوس (أ) والسفينة التي عاد بها (ب) فهل يمكن اعتبارهما سفينة واحدة، وسفينة القمام هي السفينة الثانية؟ لكن هذا السيناريو يطرح مشكلات، فالقول أن (أ) = (ب) يعني أن (ب) = (ج) وأنه نتيجة لذلك فإن (أ) = (ج). غير أن ذلك غير صحيح لأن كل لوح في (ج) هو لوح من (أ) والعكس صحيح. ومع هذا ندعي أن السفينة هي نفسها.
نظرية أخرى يمكن أن تحل المعضلة هي نظرية الاستمرار المكاني المؤقت، تقول هذه النظرية: إن شيئا ما له طريق مستمر ودائم في المكان والزمان، وإن التغيير فيه تدريجي لكن الشكل أو الهيئة باقيان، أي أنه هو نفسه، الذي يمكن تطبيقه على السفينة في تغيرها التدريجي الذي أدى إلى تكوين السفينة في النهاية. ومع هذا توجد هنا مشكلة: ماذا لو وضعنا كل لوح في السفينة في صندوق، وأبحرناه حول العالم وأعدناه ثم فتحنا الصندوق، وأعدنا بناء السفينة منه؟ يتبين لنا أنه مع أن السفينة عددياً هي نفسها، إلا أن الموضوع ليس موجوداً باستمرار كسفينة موضوع في المكان/ الزمان.
والخلاصة أن المعضلة أبعد من السفينة بكثير إنها تدور حول الهوية : ما الذي يجعلنا نحن؟ فمكوناتنا تتغير بالمكان والزمان، ومع هذا نبقى نحن أنفسنا، فهل هوياتنا هي هي لأن بنياتنا / هياكلنا ثابتة؟ إذا كان الأمر كذلك فإن فقدان المرء لطرف/ عضو منه، وحتى قص شعره لن يبقيه ما هو بعد ذلك. هل نحن ما نحن بسبب عقولنا ومشاعرنا؟ إذا كان الأمر كذلك فأنت لن تكون أنت إن فقدت ذاكرتك، او غيرت قلبك أو مشاعرك/ عواطفك؟ هل نحن ما نحن لأننا مخلوقون من الأجزاء التي تكوننا؟ هل هو تاريخنا؟ سفينة تسيوس والهوية ما تزالان تبحثان إلى اليوم.