الاخبار العاجلة
خيط الدم المسال

خيط الدم المسال

مالك العثامنة

(إن خطر تصوير الوضع في غزة على أنه حرب بين الغرب والدول العربية أو الإسلامية قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأمن العالمي).
هذه عبارة لافتة ومهمة على بساطتها وخلوها من التعقيد وردت في مقال مهم للدكتور عامر السبايلة منشورا بالإنجليزية في صحيفة الجوردان تايمز "واللغات الأخرى مهمة جدا ونفتقدها في إعلامنا الموجه".
طبعا، يورد السبايلة وهو متخصص معلوماتي بالغ الاحتراف والمهنية إثباتات فرضيته المطروحة في المقال، وهي فرضية أتفق معه فيها تماما.
قبل الحرب على العراق عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين في بغداد، كنت ضمن تيار يحذر من التداعيات الوخيمة للوصفة الأميركية في إسقاط نظام مستبد، وكان أحد أجوبتي على سؤال لدبلوماسي غربي حينها عن رأيي في ما بعد "غزو العراق" و "نشر الديمقراطية"، ما مفاده أن احتلال العراق تحت أي مسمى وبالطريقة الأميركية المعتادة في "نشر الديمقراطيات" لبلد عانى طويلا من الكبت في الحريات والاستبداد سيفلت عقال التطرف وينتج أجيالا جديدة ممسوخة ومشوهة بوعيها ومنحازة للتطرف أكثر من قبل.
وقد دفع العراقيون فعلا سنوات طويلة من الدم ما بعد نظام صدام تفوقت على كلفة الدم في نظامه الاستبدادي نفسه. وكانت التكلفة أيضا كبيرة على الغرب وأميركا خصوصا.
في مشرقنا، مشرق هذا العالم بثقافاته وحضاراته المتعددة فإن فهم الثقافات يعد حالة ضرورة، وثقافة الموت لها طقوسها المرتبطة بالعقيدة والحياة الأخرى، هذا غير ثقافة الثأر والانتقام الراسخة في العقل الجمعي العربي والمشرقي عموما.
ما فعلته إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر أنها نثرت بذور التطرف الذي حملته صناديق الاقتراع على شكل حكومة يمينة بربطات عنق لا تختلف في خطابها عن قاطني الكهوف في قندهار، وقد نثرت بذور الانتقام بتطرفها الذاتي لا في غزة وحسب، بل في العالم خصوصا في تلك الدول التي قبلت أن يكون الصراع صراعا دينيا أو أيديولوجيا ممتدا في تباينات عميقة بين ثقافتين.
هل من حلول؟

لا يمكن لأحد بعد اليوم أن يتعهد بوقف خيط الدم المسال تماما من صيرورة الارتداد كحالة انتقامية في المستقبل، لكن يمكن وقف خيط الدم المستمر الآن، لأن ذلك ببساطة يعني وقف نثر مزيد من بذور الثأرية والانتقام التي ستزهر ذات يوم ذئاب منفردة أو مجتمعة لا هدف لها ولا عقيدة راسخة في داخلها الا الانتقام.
وقف إطلاق النار لم تعد مسألة سياسية إقليمية بل أهميتها تكمن في قراءتها كمسألة أمن عالمي يطال الجميع ويمس أمن الجميع على هذا الكوكب، ولا يكفي وقف إطلاق النار الضروري والفوري وحده، فلا بد من محاولة دولية أممية حازمة للمحاسبة والمساءلة وهو ما يكفي إلى حد كبير "وليس نهائيا" بإحلال مفهوم العدالة عند أصحاب الدم وهم بفضل نتنياهو وسياساته المتراكمة منذ عقود يتحولون إلى قنابل موقوتة ومؤجلة.
ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، هناك ضرورة لا لإعمارها وحسب من كل هذا الركام، بل تأهيل إنسانها وإعادة الأمل إليه وهذا لا يتحقق بدون تمكينه من تحقيق مصيره كإنسان مكتمل الكرامة والحرية، وهو ما يعيد للشرعية الدولية وقوانينها الأممية الإنسانية شيئا من المصداقية التي قد تغنينا عن سلاسل الانتقام الدموي.

كل ما ورد أعلاه عن غزة اليوم، وبكل ما فيه ينطبق على الضفة الغربية وكامل الشعب الفلسطيني.
تماما، مثلما كان حقا لكل الشعوب التي عانت من الاحتلال، وربما أقرب نموذج تاريخي حالة "جنوب أفريقيا" قبل وبعد نظام الفصل العنصري القائم أصلا على مفهوم احتلالي إقصائي وقد انتهى إلى غير رجعة.


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).